
الأمة| كراهية الأجانب” أيديولوجية غريبة عن تركيا وثقافتها وتاريخها ومعتقداتها ونسيجها الاجتماعي. وتشهد على ذلك آلاف السنين من التراث الحضاري والثقافي لسكان هذه المنطقة.
فبعيدًا عن أي نوع من الغطرسة أو تجميل التاريخ، فإن التنوع الاجتماعي والثقافي كان السمة البارزة على مدار ألف عام من الزمان.
من هم العثمانيون
العثمانيون قومٌ من التُرك؛ يُنسبون إثنيًّا إلى العرق الأصفر أو المغولي، وهو عرقٌ تُنسب إليه شعوب آسيا الشرقية كالمغول والصينيين وغيرهم. عاش التُرك قبائل وعشائر عدّة، وكان موطنهم الأوّل بوادي آسيا الوسطى، ما بين جبال آلطاي شرقًا وبحر قزوين غربًا، فأصلُ العثمانيين يعود لقبيلةٍ من قبائل التُرك هي «قبيلة قايى».
هل الاتراك يحبون العثمانيين؟
ففي الأولى ليس كل الاتراك يحبون العثمانية فهناك القوميين اتباع اتاتورك هؤلاء من أشد محاربي الدولة العثمانية وبل هم من اسقطوها. وهناك الجيل الجديد من الاتراك الذي بدأ بنفض الغبار عن التاريخ العثماني في محاولة لإعادة الارتباط بالجذور (وهذا المطلوب في أي نهضة مهما كانت).
ويستخدم معظم المتحدثين باللغة العربية مصطلح الأتراك للإشارة إلى أتراك الأناضول بالتحديد او سكان الجمهورية التركية، لكن في الواقع الأتراك (Türkler) يمكن ان يقصد بهم جميع الاقوام التي تتحدث اللغات التركية من الأناضول إلى سيبيريا، أي أن المتحدث بلغة تتار القرم والمتحدث باللغة الاويغورية هما كلاهما أتراك.
وفي القرن السادس عشر، استولى العثمانيون على البحر الأحمر وساحل الخليج العربي (الحجاز،وتهامة وعسير، والأحساء) وضمّوها إلى إمبراطوريتهم، وأعلنوا هيمنتهم على أراضي البرّ.
كان الهدف الأساسي من هذه الحركة هو تثبيط محاولات البرتغاليين في الهجوم على البحر الأحمر (ومنه، الحجاز) والمحيط الهندي.
متى بدات علاقة الاتراك العثمانيين بالعرب؟
بدأ اهتمام العثمانيين باللغة العربية منذ عهد المؤسس الأول عثمان بن أرطغرل، وقد أثْرَت تربيته على القرآن الكريم اهتمامه باللغة العربية، وبدأت الترجمة الحقيقية لاهتمام العثمانيين بالعربية في عهد أورخان بن عثمان، والذي أخرج التعليم من حيز المسجد إلى المدرسة.
تهميش العرب
قبل الإجابة على هذه التقطة، دعونا نتساءل، هل العرب وحدهم من تم تهميشهم؟ أم شاركهم الأتراك هذا التهميش؟
لقد قامت دولة العثمانيين بعيدا عن العرب وبلادهم، ووصلت إلى ذروة قوتها بعيدا عنهم (وقد تم فتح القسطنطينية مثلا عام 1453م أي قبل دخول العثمانيين بقيادة السلطان سليم الاول عام 1516 ب 63عاما)، وأما الادعاء أن العرب قد تم تهميشهم في الدولة العثمانية فهو قول غير دقيق، لأن العثمانيين حين دخلوا بلاد العرب كان العرب قد تم تهميشهم منذ زمن بعيد جدا يرجع إلى لحظة سقوط دولة بني أمية والتي كانت دولة عربية قحة.
ثم قامت على أنقاضها دولة بني العباس، حيث كان العرب قد بدأت ازاحتهم عن مسرح الأحداث، ثم خرجوا من كل دور سياسي أو عسكري وتطاول الزمن بهم على هذه الحال والبلاد الإسلامية العربية وغير العربية لا يحكمها سوى المسلمين الأعاجم، وإن وجدث إمارة عربية ما كالحمدانيين مثلا وجدث جيوشهم في معظمها من الترك والديلم، أي أن الإمارة عربية الوجه أعجمية السلطة والجيش.
دول نحّت العرب
مع الزمن اعتاد العرب أن يكونوا رعية بعيدين عن الإمارة والسلطة، كما الحال عند (الطولونيّين، الإخشيديين، البويهيّين، السلاجقة، الاتابكيين، الازنكيّين، الأيوبيّين، المماليك البحرية، ثم المماليك البرجية)، أي ما يتجاوز600 سنة، فلما دخل العثمانيون بلاد العرب وجدوهم على هذا النحو، وكانت سياسة العثمانيين في حكمهم غير مركزية وكانت تبقي على الزعماء المحليين في الأقاليم والقرى ما داموا أعلنوا لها الخضوع للسيادة العثمانية فبالتالي بقي كثير من الأمراء الأعاجم في سلطانهم تحت الحكم العثماني.
الغريب أن حال التركمان كان أكثر سوءًا، فالأتراك أفراد العرق التركي، وهم من نفس عرق السلالة العثمانية الحاكمة، كانوا أقل الأعراق حُظوةً وأكثرهم تهميشا في الدولة العثمانية العلية، فترى أن مناصب الدولة الحساسة والعالية والإدارية يتسلمها أشخاص من أعراق غير تركية، وكان أكثرهم من (الألبان، والأرمن، والشركس، والصرب، والبوسنة، والكرد، والكروات)، ونادر أن تجد تركماني في منصب رفيع أو صدر أعظم للدولة العثمانية.
جذور مسيحية ويهودية من أعراق أخرى وعبثها بالدولة، كما أن هذا الإبعاد والتهميش كان تربة خصبة لنمو النزعة التركية الطورانية في نهاية الدولة العثمانية.
طبيعة الأتراك
وبإمكان أي متابع أن يلحظ النزعة القومية التي يتمتع بها الأتراك، وتنعكس على طريقة ممارستهم للسياسة والرياضة والفن والدراما، وتعاطيهم المتوجس مع اللغات والثقافات الأجنبية، وظهورها في الأمثال الشعبية التي يقول أحد أشهرها “لا صديق للتركي سوى التركي” وهو مثل يرد في الشعر والأدب بصيغ مختلفة، إلى جانب عشرات المقولات التي تحمل مضامين عرقية تجاه العرب والكرد واليهود والزنوج.
وللأسف كثير من هذه النزعات مغروز في المناهج التعليمية، التي تصور تراجع الإمبراطورية العثمانية إلى ما يوصف بخيانة العرب، وتلك بدورها واحدة من أهم المقولات التي ركز عليها كمال أتاتورك في بناء آيديولوجيته العلمانية الكارهة للثقافة العربية والشرقية، والتحول إلى عملية تغريب مكثفة جرفت كل التاريخ العثماني كله، بغية تحويل تركيا إلى بلد غربي يحقق من وجهة نظره التقدم والتحديث الذي ضاع في ظل الإمبراطورية التي أسهم هو شخصياً بقوة في تحللها، عبر تفاهمات مع قوى الاستعمار البريطاني والفرنسي، التي جسدتها معاهدة لوزان 1923، التي أنشأت ما نعرفه الآن بتركيا الحديثة.
واقترن بروز نزعة عداء العرب لدى الأتراك مع صعود النزعة القومية على مستوى النخبة التركيّة، وكان ذلك خلال القرن التاسع عشر، في وقت تصاعدت فيه القوميّات في أوروبا، ومن حول الدولة العثمانية؛ فبرزت قوميات عدّة في محيط الأتراك، من الروسيّة، إلى السلافيّة، إلى البلغاريّة، إلى اليونانيّة. دفع ذلك باتجاه تبلور وصعود القوميّة التركيّة، وظهرت فكرة إنشاء دولة قوميّة تركيّة، وبالتالي وجوب “تتريك” الأعراق المتعددة الموجودة داخل إطار الدولة العثمانيّة.
وبدأ هذا الاتجاه بالتجسّد في حركات منظّمة، كما كان في جمعية “تركيا الفتاة” التي ظهرت بين الطلاب العسكريين أواخر القرن التاسع عشر. ومن ثم تأسست جمعية “الاتحاد والترقي” عام 1906م لتعبّر عن التوجه ذاته، قبل أن تتمكن من اعتلاء الحكم على إثر انقلاب العام 1909م، ليتم بعدها تبني التتريك سياسةً رسميّة من قبل الدولة.
في المقابل تصاعد اتجاه “الثورة” بين العرب، وهو ما تحقق في الحرب العالمية الثانية، حين اختار الشريف الحسين بن علي استغلال ظروف الحرب والانحياز إلى جانب الحلفاء والوقوف إلى جانب بريطانيا في مواجهتها مع الدولة العثمانية، وتلقي الدعم منها. وجَدَ العرب المنخرطون في الثورة أسباباً كثيرة للخطوة التي اتخذوها، في حين اعتبرها الأتراك بمثابة خيانة صريحة لبلادهم، وباتت هذه الفكرة بمثابة صورة مكرسّة عن العرب سرعان ما تتبادر للتركي عند طرح السؤال عن صورة العربي. وقد كرسّ هذه الصورة المؤرخون الأتراك من الاتجاه القومي، أمثال: يوسف آق جورا، ويوسف ضياء، وسعدي مقصودي، ورشيد صفوت. كما تم ترسيخها في كتب المناهج الدراسيّة.
النتيجة المباشرة لهذه الصورة كانت الدفع باتجاه القطيعة مع كلّ ما هو مقترن بالعرب والثقافة العربيّة والإسلاميّة، فجرى استبدال الأبجديّة العربية باللاتينية، وتقرر جعل الأذان باللغة التركيّة.
كانت علمانيّة أتاتورك محاولة لإحداث القطع التام مع التراث الإسلامي المشترك مع الشعوب العربيّة والشرقية، مقابل مساعي “التغريب” والاتجاه كلياً نحو الثقافة والفكر الغربي. كل ذلك ساهم في خلق وتعميق الهوّة بين العرب والأتراك، وهو ما استمر أثره طوال عقود ممتدة بعد رحيل أتاتورك.
لكن الرفض الأوروبي الواضح لتركيا جعل شعورا يتنامى من جديد بضرورة استعادة الهوية الإسلامية، والتوجه شرقًا، وكانت البداية مع الرئيس “تورغوت أوزال” (1989-1993م) الذي كان أول من تحدث عن “العثمانيّة الجديدة”، إلى صعود حزب “الرفاه” ذي الخلفيّة الاسلاميّة ومشاركته بالحكم خلال التسعينيات. ومن ثم وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002م. وتزامن ذلك مع التحوّلات على المستوى الدولي، ونهاية الحرب الباردة، وبحث تركيا عن أدوار جديدة لسياستها الخارجيّة.
هذه التغيرات المتقطعة حتى وصول العدالة والتنمية للحكم ساهمت إلى حد بعيد في الحد من هذه النزعة القومية العنصرية للأتراك ضد العرب، وإن لم ننكر بقاء بقايا منها عند فئة ليست بالقليلة.