منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، تزايدت الأصوات الأوروبية والدولية للمطالبة بفرض عقوبات على إسرائيل بسبب ما وُصف بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم حرب بحق المدنيين الفلسطينيين. وبينما تتوالى التقارير الحقوقية التي توثق استهداف البنية التحتية المدنية، والمجازر ضد الأطفال والنساء، تلوح في الأفق مؤشرات على تحرك أوروبي فعلي لفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على إسرائيل، في تحول ملحوظ في السياسة الأوروبية التي طالما اتسمت بالتوازن أو الانحياز الجزئي لتل أبيب.
السياق السياسي والحقوقي للعقوبات
تشير عدة تقارير صادرة عن منظمات أممية مثل الأمم المتحدة، وهيومن رايتس ووتش، إلى ارتكاب القوات الإسرائيلية انتهاكات ترقى لجرائم حرب، من بينها الحصار الخانق، واستهداف المستشفيات، والمراكز التعليمية، ومخيمات اللاجئين في غزة، والتي خلفت ما يزيد على 35 ألف قتيل بالمخيمات فقط ومئات الآلاف من الجرحى والمشردين.
في ضوء هذه التطورات، بدأت عدة دول أوروبية، أبرزها إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا، التحرك باتجاه الدفع لفرض حزمة من العقوبات السياسية والاقتصادية على إسرائيل، تشمل حظر تصدير الأسلحة، وتجميد اتفاقيات تجارية، وإعادة تقييم العلاقات الدبلوماسية.
سابقة العقوبات الأوروبية على إسرائيل
رغم العلاقات القوية التي تربط الاتحاد الأوروبي بإسرائيل، شهدت السنوات الماضية محاولات محدودة لفرض إجراءات عقابية على تل أبيب، خاصة في أعقاب الحروب السابقة على غزة، مثل حرب 2014. آنذاك، جمد الاتحاد الأوروبي بعض اتفاقيات التعاون في مجالات الأبحاث والتكنولوجيا، وأوقف الدعم المباشر للمؤسسات الواقعة في المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية، إلا أن هذه الإجراءات ظلت رمزية إلى حد بعيد.
مستوى التصعيد المتوقع
المرحلة الحالية تشهد نقاشًا جادًا في أروقة الاتحاد الأوروبي بشأن توسيع نطاق العقوبات، وتتضمن المقترحات المطروحة:
حظر بيع الأسلحة والمعدات ذات الاستخدام المزدوج لإسرائيل. و تجميد اتفاقية الشراكة الأوروبية–الإسرائيلية التي تمنح إسرائيل امتيازات تجارية خاصة. و فرض عقوبات فردية على قادة سياسيين وعسكريين إسرائيليين مسؤولين عن العمليات في غزة. و دعم مساعي المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة المسؤولين عن الجرائم في القطاع.
الأثر الاقتصادي المتوقع على إسرائيل
تمثل السوق الأوروبية شريكًا تجاريًا أساسيًا لإسرائيل، حيث تبلغ صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي أكثر من 30 مليار دولار سنويًا، تشمل التكنولوجيا، والأسلحة، والمنتجات الزراعية. وبالتالي، فإن فرض عقوبات اقتصادية وتجارية سيؤدي إلى انكماش في الاقتصاد الإسرائيلي، خاصة في قطاع التكنولوجيا المتقدمة والتسليح. و تراجع في الاستثمارات الأوروبية المباشرة، حيث تعد دول مثل ألمانيا وهولندا من أكبر المستثمرين. كما سيؤدى إلى تذبذب في سوق المال الإسرائيلي بسبب الضغوط السياسية والاقتصادية الدولية.
الأثر السياسي والدبلوماسي
سياسيًا، ستمثل هذه العقوبات ضربة قوية للمكانة الدولية لإسرائيل، وستفتح الباب أمام إعادة صياغة علاقاتها مع الغرب. وستواجه الحكومة الإسرائيلية عزلة متزايدة في المحافل الدولية، مما قد يؤدي إلى تراجع الدعم التقليدي الذي تحظى به من بعض الدول الأوروبية. وتشجيع دول الجنوب العالمي على اتخاذ مواقف أكثر صرامة ضد إسرائيل. وزيادة الضغط الداخلي على الحكومة الإسرائيلية من قبل المجتمع المدني الإسرائيلي المتضرر اقتصاديًا.
احتمالات توسيع المشاركة الدولية في العقوبات
رغم أن الحراك الحالي يقوده الاتحاد الأوروبي، فإن هناك مؤشرات على انضمام دول أخرى خارج أوروبا إلى جهود الضغط على إسرائيل، مثل جنوب إفريقيا التي اتخذت موقفًا حاسمًا في المحكمة الجنائية الدولية ، ودول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل وتشيلي التي استدعت سفراءها من تل أبيب. ، وتركيا وماليزيا وإندونيسيا التي قد تنضم إلى جهود المقاطعة الاقتصادية أو الدبلوماسية.
هل تعيد العقوبات تشكيل النظرة الدولية لإسرائيل؟
من شأن فرض عقوبات أوروبية أن يعيد تموضع إسرائيل في الوعي السياسي الدولي، فبعد عقود من اعتبارها حليفًا غربيًا في منطقة الشرق الأوسط، فإن استمرار الانتهاكات ومحاسبتها دوليًا قد يؤدي إلى تحول في الخطاب الإعلامي والسياسي العالمي، من دعم غير مشروط إلى مطالبة بالمحاسبة و. إضعاف فعالية “الفيتو الأخلاقي” الذي طالما استخدمته إسرائيل لتبرير سياساتها الأمنية. وإعادة النظر في الرواية الإسرائيلية التقليدية أمام الرأي العام الدولي، خاصة في الدول الغربية.
انعكاسات على العلاقة بين فلسطين وأوروبا
من أبرز نتائج هذه العقوبات المحتملة، أنها قد تمهد لإعادة رسم العلاقة بين القضية الفلسطينية والاتحاد الأوروبي، عبر تعزيز الاعتراف بالدولة الفلسطينية كما فعلت إسبانيا وأيرلندا والنرويج مؤخرًا. وزيادة الدعم الإنساني والسياسي للسلطة الفلسطينية والمنظمات المدنية في الضفة وغزة. وإعادة هيكلة برامج الشراكة الأوروبية لتشمل الجانب الفلسطيني بصورة متوازنة
إن العقوبات الأوروبية المتوقعة على إسرائيل قد تشكل منعطفًا تاريخيًا في مسار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ليس فقط لما لها من تأثير مباشر على الاقتصاد والسياسة الإسرائيلية، بل لما تحمله من رسائل دولية واضحة بشأن العدالة والمحاسبة. ورغم صعوبة التكهن بسرعة تفعيل تلك العقوبات بسبب الانقسام الأوروبي حولها، فإن مجرد التلويح بها يُعد تطورًا جوهريًا في الموقف الأوروبي تجاه إسرائيل، ويمهد لإعادة صياغة العلاقات الإقليمية والدولية المرتبطة بالصراع
