أقلام حرة

العنصر الديني في الصراعات الحديثة: مقارنة بين الحالة الباكستانية والعربية

محمد فوزي التريكي

تُعد الخلفية الدينية أحد العوامل المحرِّكة والمغذِّية للنزاعات المعاصرة، لا سيما حين تتداخل مع القومية والهويات الجماعية. ويظهر هذا بوضوح في الأزمة التي اندلعت بين الهند وباكستان، حيث كان العنصر الديني -ممثلاً في الإسلام من الجانب الباكستاني والهندوسية من الجانب الهندي- حاضراً بقوة، ليس فقط في الخطاب السياسي، بل أيضاً في الأداء العسكري والسلوك الفردي للمقاتلين.

الطابع العقدي للمؤسسة العسكرية الباكستانية

منذ تأسيسها عام 1947، قامت باكستان على أساس ديني، كدولة للمسلمين في شبه القارة الهندية. وقد انعكس هذا التأسيس على بنيتها العسكرية؛ فالجيش الباكستاني، بخلاف جيوش كثيرة أخرى، يحمل في داخله تصورات عقدية تُظهره كـ«جيش الإسلام» لا كجيش وطني فحسب.

هذا البعد العقدي بدا واضحاً في تصريحات الطيارين الباكستانيين أثناء المواجهة مع الهند، حيث تحدث بعضهم عن «الشهادة» و«الجهاد» بوصفهما دافعين نفسيين ومعنويين في الحرب. كما برز ذلك في خطابات رئيس الحكومة الباكستانية التي لم تخلُ من إشارات دينية صريحة، تُقدّم المواجهة مع الهند على أنها صراع هوياتي بين الإسلام والهندوسية.

الخطاب السياسي الباكستاني: الدين كأداة تعبئة

في باكستان، يُستخدم الخطاب الديني بوصفه أداة تعبئة للرأي العام، وشكلًا من أشكال ترسيخ الشرعية للقرارات السياسية والعسكرية. التصريحات الرسمية كثيراً ما تُصاغ بلغة دينية تُلهب المشاعر، وتُقدّم الجيش كحامٍ للإسلام، لا كمجرّد قوة دفاع عن الدولة وحدودها. هذا التماهي بين العقيدة الوطنية والعقيدة الدينية يمنح المؤسسة العسكرية صفة «المقدس» في المخيال الشعبي، ما يُضفي على الصراعات طابعًا غير قابل للتفاوض بسهولة.

الجيوش العربية: العلمانية العسكرية وانفصال العقيدة عن السلاح

في المقابل، فإن الجيوش العربية -رغم اختلاف أنظمتها- قامت منذ منتصف القرن العشرين على فلسفة عسكرية ذات طابع علماني. فقد تأثرت هذه الجيوش بالتجربة الأوروبية، خصوصاً الفرنسية والروسية، حيث يُفصل بين الدين كمجال روحي فردي، والمؤسسة العسكرية بوصفها جهازًا للدولة الحديثة.

في العقيدة القتالية للجيوش العربية، لا يُستدعى الدين كمرجعية مباشرة، بل تُبنى الهوية العسكرية على مفاهيم السيادة الوطنية، الوحدة، والتحرير. حتى عندما واجهت هذه الجيوش خصومًا يتكئون على خطاب ديني، كما في الصراع مع إسرائيل، فقد ظلت مرجعيتها أيديولوجية قومية أو اشتراكية أو وطنية، لا دينية.

الفروق في الروح القتالية: بين الحافز الديني والانضباط المؤسسي

الفارق الجوهري بين النموذج الباكستاني والنموذج العربي يكمن في الروح القتالية التي يغذيها الحافز الديني مقابل الانضباط المؤسسي. في باكستان، يُستثمر العامل الديني لتعزيز الحافز الفردي والتضحية، وهو ما يخلق طاقة قتال معنوية عالية لكنها قد تتجاوز أحياناً منطق الدولة وتوازنات السياسة.

أما في الجيوش العربية، فغالباً ما يُنظر إلى الجندي بوصفه منفذًا لأوامر السلطة، وليس حاملاً لرسالة دينية أو مكلَّفًا بمهمة عقدية. وهو ما يجعل من العقيدة العسكرية أكثر انضباطًا، لكنها في أوقات الأزمات قد تفتقد للزخم المعنوي الذي يوفره الدين لدى المجتمعات المتدينة.

في الختام

تكشف الأزمة بين الهند وباكستان عن مدى تأثير الدين في تشكيل العقيدة القتالية والسلوك السياسي والعسكري للدول ذات المرجعية الدينية. وفي المقابل، فإن التجربة العربية تظهر نموذجًا مختلفًا، حيث تم تقنين العمل العسكري داخل إطار علماني تقني، لا عقائدي ديني. هذه المفارقة تطرح أسئلة عميقة حول العلاقة بين الدولة والدين في زمن الحروب، وتضعنا أمام مفترق طرق: أيّ الجيوش أكثر قدرة على الحسم – تلك التي تقاتل باسم الإيمان، أم تلك التي تقاتل باسم السيادة؟

محمد فوزي التريكي

كاتب وإعلامي تونسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى