يتحول الغذاء في غزة من حاجة إنسانية أساسية إلى أداة سيطرة استعمارية متقدمة، حيث لا يُستخدم الجوع كأثر جانبي للحرب، بل يُهندس بدقة كأداة للقمع والهندسة الاجتماعية. فالأزمة ليست في ندرة الموارد، بل في التحكم المتعمد بالوصول إليها، حيث يفرض الاحتلال نظاماً صارماً لحساب السعرات الحرارية بما يبقي السكان على حافة البقاء، ويضمن سلبهم الكرامة والسيادة.
هذا “التجويع الرحيم” لا يهدف إلى القتل المباشر، بل إلى تفكيك بنية المجتمع وإعادة إنتاج علاقة الخضوع. فمن خلال السيطرة على المعابر، وتقييد الزراعة والصيد، وتدمير الاقتصاد المحلي، يتم تحويل غزة من كيان منتج إلى مجتمع استهلاكي يعتمد كلياً على المساعدات الخارجية. وهنا يكمن الفخ، فالمساعدات الإنسانية، التي تأتي تحت غطاء “الإنقاذ”، تتحول إلى جزء من آلية الحصار نفسها. هي لا تلغي الجوع، بل تديره وتنظمه، وتكرّس التبعية وتُعفي المحاصِر من مسؤولياته، وتنزع الطابع السياسي عن الجريمة الأصلية.
بهذه الطريقة، يُفصل الإنسان عن أرضه، ويُستبدل حقه في السيادة الغذائية بـ”قسيمة إغاثة” مشروطة. لا يعود الطموح هو التحرر، بل الحصول على كرتونة طعام. إن ما يجري في غزة يكشف بوضوح كيف يمكن استخدام الخبز كسلاح لإبادة رمزية، لا تقتل الأجساد بالضرورة، بل تسحق الإرادة وتُخضع الروح، وتبقي الناس أحياءً لكن مجردين من أي مشروع للحياة والحرية. إنها جريمة صامتة تحوّل الحق في الغذاء إلى أداة لضمان أمن المستعمِر، لا أمن الجائع.