الخرطوم – 30مايو 2025 | تقرير خاص
في مشهد يجمع بين الأوبئة والحرب والانهيار، يعيش السودان واحدة من أسوأ الكوارث الصحية في تاريخه المعاصر، حيث يتفشّى وباء الكوليرا في أنحاء البلاد، لا سيما ولاية الخرطوم، وسط تدهور شبه كامل في النظام الصحي، ونقص حاد في المياه والكهرباء، وإغلاق واسع للمستشفيات.
ففي يوم الأربعاء 28 مايو 2025، أعلنت وزارة الصحة في ولاية الخرطوم تسجيل 942 حالة إصابة جديدة بالكوليرا و25 حالة وفاة خلال 24 ساعة فقط، وذلك بعد يوم واحد من تسجيل 1177 إصابة و45 وفاة، في ارتفاع مقلق يشي بأن الوضع يتجه إلى كارثة أوسع إن لم يتم تداركه بسرعة.
الكوليرا تنتشر والمستشفيات تغلق
خلال الأسبوع المنتهي يوم الثلاثاء، وثّقت وزارة الصحة 172 حالة وفاة نتيجة الكوليرا، 90% منها في ولاية الخرطوم وحدها، حيث يُعد الانهيار الصحي الأكثر وضوحًا. وفي حين بلغت نسبة الشفاء في مراكز العزل 89%، وفق التصريحات الرسمية، إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى أن هذه المراكز لا تكفي للتعامل مع الحجم المتزايد للإصابات، في ظل تفشي المرض بشكل متسارع وتدهور البنية التحتية الصحية.
نقابة الأطباء السودانية كشفت أن قرابة 90% من المستشفيات في البلاد أُجبرت على الإغلاق في مرحلة ما من الحرب، بسبب تعرضها للاقتحام، القصف، أو النهب. وهو ما جعل آلاف المصابين بالكوليرا محرومين من الرعاية الطبية الأساسية، أو مضطرين للانتظار في طوابير طويلة أمام مراكز العزل المحدودة.
الحرب… الجحيم الآخر الذي يغذّي الوباء
جاء تفشي الكوليرا في ظل أوضاع معيشية وبيئية متردّية، زادتها الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع سوءًا. فقد أدت ضربات جوية بالطائرات المسيّرة – نُسبت إلى قوات الدعم السريع – إلى انقطاع إمدادات المياه والكهرباء في عدة مناطق من العاصمة الخرطوم خلال الأسابيع الماضية، ما وفّر بيئة مثالية لانتشار الوباء.
وبينما أعلنت الحكومة المدعومة من الجيش، الأسبوع الماضي، أنها أخرجت قوات الدعم السريع من آخر معاقلها في ولاية الخرطوم بعد شهرين من العمليات العسكرية، فإن الخراب الذي تركته المعارك بات أوضح من أن يُخفى: أحياء مدمّرة، شبكات صرف صحي متوقفة، مياه ملوثة، ومرافق طبية مغلقة أو غير صالحة للعمل.
نظام صحي مُنهك أمام كارثة متكاملة
منذ بداية الحرب في أبريل 2023، تعرضت العاصمة الخرطوم إلى دمار واسع في البنية التحتية، ما شمل مساكن، شبكات مياه، ومرافق صحية. وبينما يواجه السودان الآن موجة قاتلة من الكوليرا، لا يملك القطاع الصحي من الإمكانيات ما يمكّنه من المواجهة. فالمرافق القليلة التي ما تزال تعمل تعاني من نقص الأدوية، قلة الكوادر الطبية، غياب الكهرباء، وشحّ المياه النظيفة.
تقول إحدى الطبيبات في مركز عزل مؤقت بأم درمان – فضّلت عدم ذكر اسمها لأسباب أمنية – إن الوضع “يفوق قدرتنا على التحمل”، وتضيف:
“نستقبل مئات الحالات يوميًا، لا نملك عددًا كافيًا من الأسرة، ولا حتى أدوات الوقاية. هناك أطفال يموتون في الطريق، وآباء يودّعون أبناءهم أمام أبواب المركز، دون أن نستطيع فعل شيء.”
نزوح، جوع، ووباء… ملامح مأساة متكاملة
لم تكن الكوليرا سوى حلقة جديدة في سلسلة الأزمات التي يشهدها السودان. فالحرب التي دخلت عامها الثالث تسببت في نزوح أكثر من 13 مليون شخص داخل البلاد وخارجها، وفقًا للأمم المتحدة، ما يجعل السودان حاليًا في قلب أكبر أزمة نزوح في العالم.
النازحون يعيشون في ظروف بيئية كارثية: مخيمات مكتظة، غياب للمياه النظيفة، صرف صحي متهالك، ونقص في الغذاء والدواء. وفي ظل هذه الظروف، يصبح تفشي الكوليرا أمرًا متوقعًا، بل حتميًا، مع غياب أي استراتيجية واضحة لاحتواء الأزمة.
تحذيرات دولية واستغاثات عاجلة
منظمة الصحة العالمية والمنظمات الدولية الإنسانية وجّهت نداءات عاجلة لتقديم مساعدات طبية عاجلة للسودان، محذّرة من أن “الوضع قد يخرج عن السيطرة تمامًا إذا لم يتم التدخل فورًا.”
وتشير التقارير إلى أن هناك خطرًا حقيقيًا بأن تنتشر الكوليرا إلى ولايات أخرى خارج الخرطوم، خاصة في معسكرات النازحين التي تعاني من اكتظاظ شديد وافتقار شبه تام للبنية التحتية الصحية.
هل من مخرج؟
المراقبون يتفقون على أن معالجة أزمة الكوليرا في السودان لا يمكن أن تتم دون حل شامل للأزمة السياسية والأمنية. لا يمكن لأي نظام صحي أن ينهض وسط القصف، والنهب، والانهيار الإداري.
إلى حين ذلك، يبقى المواطن السوداني – مجددًا – هو الضحية الأولى والأخيرة، يموت بالكوليرا، أو بالجوع، أو بقذيفة طائشة، بينما ينشغل الساسة بميادين المعارك وتقاسم النفوذ.
في الختام،
الكوليرا في السودان ليست مجرد وباء، بل مرآة لأزمة أعمق، أكثر تعقيدًا، وأشد قسوة. ما لم يتم التعامل معها كأولوية وطنية وإنسانية، فإن البلاد مقبلة على ما هو أسوأ. وكأن الخراب لا يكفيه السلاح، حتى جاءه الوباء.