منذ أكثر من عشرة أشهر، يعيش سكان قطاع غزة واحدة من أقسى المآسي الإنسانية في العصر الحديث، حيث لم يعد القصف والحصار وحدهما ما يهدد حياة المدنيين، بل بات الجوع والموت البطيء واقعًا ملموسًا. ومع صدور أول تقرير أممي رسمي يؤكد وقوع المجاعة في غزة، دخلت الأزمة مرحلة جديدة، ليس فقط على الصعيد الإنساني، بل أيضًا على الصعيد السياسي والدبلوماسي، إذ بدأت أصوات دولية بارزة تصف ما يجري بأنه “جريمة من صنع الإنسان” و”فضيحة أخلاقية”.
الأمم المتحدة: إعلان رسمي عن المجاعة
أكد تقرير “التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي” (IPC)، الذي شاركت فيه الأمم المتحدة وهيئات دولية، أن غزة تشهد بالفعل حالة مجاعة موثقة وفق المعايير الأممية، وأن ما يقرب من نصف السكان يعيشون في ظروف انعدام أمن غذائي كارثي.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وصف الوضع بأنه “وصمة عار على جبين الإنسانية”، محذرًا من أن استمرار الحصار ومنع دخول المساعدات سيؤدي إلى “موت أعداد هائلة من المدنيين جوعًا، في وقت كان يمكن فيه تفادي ذلك”.
بريطانيا: “فضيحة أخلاقية” من صنع الإنسان
وزير الخارجية البريطاني ديفيد ليمان أصدر بيانًا شديد اللهجة قال فيه إن رفض إسرائيل السماح بدخول المساعدات هو السبب المباشر في هذه الكارثة، مضيفًا: “إنها فضيحة أخلاقية وكارثة من صنع الإنسان”.
وأكد ليمان أن الأطفال هم الفئة الأكثر تضررًا، مشددًا على أن إسرائيل تستطيع، بل يجب عليها، أن تسمح فورًا وبشكل مستدام بدخول الغذاء والدواء والوقود. كما طالب بوقف فوري لإطلاق النار، معتبرًا أن استمرار العملية العسكرية في مدينة غزة “بؤرة المجاعة” سيضاعف من المأساة، ويعرض الرهائن للخطر، ويمنع وصول المساعدات.
الاتحاد الأوروبي: سباق مع الزمن
من جانبها، قالت مفوضة الاتحاد الأوروبي للمساواة والاستعداد وإدارة الأزمات، حاجة لحبيب، إن المجاعة في غزة “واقع قائم وحقيقي”، مشيرة إلى أن تقرير الأمن الغذائي الأممي يؤكد أن “شخصًا من كل ثلاثة أشخاص قد يواجه المجاعة بحلول نهاية سبتمبر”.
وأضافت في منشور على منصة “إكس”: “الناس يموتون من الجوع.. وهذا سباق مع الزمن”، داعية إسرائيل للسماح المستمر وغير المشروط بوصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المحتاجين.
الموقف الفلسطيني: “إبادة بطيئة”
في المقابل، وصف رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، روحي فتوح، ما يجري في غزة بأنه “جريمة إبادة بطيئة” تمارسها إسرائيل باستخدام سلاح التجويع، مؤكدًا أن الاحتلال يسعى إلى تصفية الوجود الفلسطيني عبر الحرمان من الغذاء والدواء.
وطالب فتوح المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته ووقف العدوان فورًا، وفتح المعابر دون قيود لإدخال المساعدات، ومحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها للقانون الدولي الإنساني.
منظمات حقوقية: انتهاك صارخ للقانون الدولي
عدد من المنظمات الحقوقية العالمية، بينها “هيومن رايتس ووتش” و”أوكسفام”، أصدرت بيانات تؤكد أن منع وصول المساعدات إلى غزة يشكل انتهاكًا صريحًا لاتفاقيات جنيف، ويُصنف كجريمة حرب.
وقالت المنظمات إن صور الأطفال الهزلى الذين يعانون من سوء التغذية الحاد تمثل دليلًا دامغًا على أن المجاعة تُستخدم كأداة حرب، وهو أمر “لا يمكن السكوت عنه”.
أبعاد سياسية ودبلوماسية
إعلان المجاعة رسميًا يشكل نقطة تحول في مسار الصراع:
إسرائيل في عزلة متزايدة: فبينما كانت تل أبيب تنجح سابقًا في تبرير عملياتها العسكرية، تواجه اليوم انتقادات علنية حتى من أقرب حلفائها الغربيين.
ضغط على مجلس الأمن: تقارير المجاعة قد تدفع أعضاء المجلس للتحرك نحو إصدار قرار يلزم بوقف إطلاق النار أو فتح ممرات إنسانية.
تعزيز المطالب الفلسطينية: السلطة والفصائل ستوظف هذه التقارير لإثبات أن الاحتلال يرتكب “جرائم ضد الإنسانية”، ما قد يفتح الباب لتحقيقات دولية جديدة.
السيناريوهات المستقبلية
في حال استمرار الحصار: تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن آلاف المدنيين، معظمهم من الأطفال، قد يموتون جوعًا خلال أسابيع.
في حال تدخل دولي عاجل: يمكن الحد من الكارثة عبر إدخال مساعدات واسعة النطاق، وهو ما يتطلب ضغطًا غربيًا متزايدًا على إسرائيل.
المسار السياسي: قد يؤدي هذا الوضع إلى دفع الأطراف نحو وقف إطلاق نار دائم، خصوصًا مع تزايد الأصوات الغربية التي ترى أن الحرب فشلت في تحقيق أهدافها وأنتجت مأساة إنسانية غير مسبوقة.
المجاعة في غزة لم تعد خبرًا تحذيريًا أو احتمالًا مستقبليًا، بل واقعًا موثقًا رسميًا من قبل الأمم المتحدة، ومُعترفًا به من دول كبرى كالمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وبينما يصف الفلسطينيون ما يجري بأنه إبادة بطيئة، ترى المنظمات الحقوقية أن الاحتلال يمارس “جريمة حرب مكتملة الأركان”.
اليوم، لم يعد السؤال هو: هل هناك مجاعة في غزة؟ بل: كيف سيتحرك العالم لوقفها؟، وهل سينجح الضغط الدولي في كسر الحصار قبل أن يلتهم الجوع مزيدًا من الأرواح؟
