في مشهد يتكرر في مناطق النزاع والكوارث، تثير عمليات إسقاط المساعدات الإنسانية من الطائرات جدلًا واسعًا بين مؤيد يرى فيها “حلًّا عاجلًا لإنقاذ الأرواح”، ومعارض يعتبرها “طريقة مهينة تعكس عجز المجتمع الدولي وفشله في الوصول الآمن للمدنيين”.
مشاهد متناقضة على الأرض
خلال الأسابيع الماضية، بثّت وسائل الإعلام صورًا لحزم المساعدات وهي تتساقط من السماء بمظلات فوق مناطق محاصرة أو منكوبة. وبينما استقبل بعض السكان هذه الإمدادات بفرح وارتياح، أبدى آخرون استياءً شديدًا، واعتبروا أن المشهد يجسد “التسول من السماء” بدلًا من حل جذري يضمن وصول الغذاء والدواء بشكل كريم ومنظم.
مؤيدون: إنقاذ أرواح في لحظة حرجة
المؤيدون يرون أن إسقاط المساعدات الجوية هو وسيلة طارئة وفعّالة في حال إغلاق المعابر البرية أو تدمير البنية التحتية، أو صعوبة الوصول بسبب القتال أو الألغام، أو الحاجة الماسة لتوفير الطعام والدواء بسرعة قبل نفاد الوقت. منظمات إنسانية تدافع عن هذه الطريقة باعتبارها “الملاذ الأخير” عندما تفشل كل الطرق الأخرى، مشيرة إلى أن التأخير قد يعني الموت جوعًا أو مرضًا لآلاف المدنيين.
معارضون: إهانة وعجز دبلوماسي
في المقابل، يرى المعارضون أن إسقاط المساعدات من الجو ليس سوى اعتراف بفشل الإرادة السياسية في فرض ممرات إنسانية آمنة، وأنه غير فعال لأن جزءًا من المساعدات قد يسقط في مناطق خاطئة أو يتعرض للتلف، كما أنه يشكل خطرًا على المدنيين إذا سقطت الطرود في أماكن مأهولة، فضلًا عن كونه مشهدًا يجرّد الإغاثة من كرامتها الإنسانية.
آراء الخبراء
عدد من خبراء الإغاثة أشاروا إلى أن الإسقاط الجوي رغم سرعته، إلا أن تكلفته باهظة، إذ قد تصل كلفة الطرد الواحد إلى ما بين خمسة وسبعة أضعاف كلفته إذا أُرسل برًا.
كما أن حجم المساعدات التي يمكن للطائرات حملها محدود جدًا مقارنة بالقوافل البرية، فضلًا عن أن معدلات الفاقد قد تتراوح بين 10% و30% بسبب انحراف الحزم أو تلفها عند الارتطام.
في المقابل، يتيح النقل البري إيصال كميات ضخمة بكلفة أقل، مع فاقد شبه معدوم إذا تم التوزيع بإشراف منظم، لكن هذا الخيار يظل رهين الترتيبات الأمنية والتوافقات السياسية.
المواقف الحقوقية
منظمات حقوقية دولية، مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”، اعتبرت أن الاعتماد المفرط على الإسقاط الجوي لا يعفي الدول من مسؤوليتها في الضغط لفتح الممرات الإنسانية، مؤكدة أن الإغاثة يجب أن تتم بما يحفظ كرامة المستفيدين، وألا تتحول إلى مجرد أداة رمزية لإظهار التعاطف.
تصريحات الأمم المتحدة
الأمم المتحدة عبر برنامج الأغذية العالمي ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية أوضحت أن الإسقاط الجوي يُستخدم فقط في الحالات القصوى عندما يكون الوصول البري “مستحيلًا”.
لكنها شددت في الوقت ذاته على أن الحل الأمثل يتمثل في إيصال المساعدات عبر ممرات آمنة ومفتوحة، لأنه أكثر كفاءة وأقل كلفة، ولأنه يمنع تكرار مشاهد الهبوط بالمظلات التي قد تنقذ حياة اليوم لكنها لا تحل جذور الأزمة.
أمثلة ميدانية من الأزمات الإنسانية
غزة 2024 – 2025: خلال الحصار، لجأت عدة دول غربية وعربية إلى إسقاط مساعدات غذائية من الجو على مناطق مكتظة بالسكان. ورغم أن بعض السكان تمكنوا من الحصول على الطرود،
إلا أن حوادث مؤلمة وقعت، بينها سقوط صناديق ثقيلة على أشخاص وأدت إلى وفيات وإصابات، فضلًا عن ضياع جزء كبير من الإمدادات في البحر أو مناطق غير مأهولة.
سوريا 2016 – دير الزور: استخدمت الأمم المتحدة الإسقاط الجوي لإمداد نحو 100 ألف شخص في المدينة المحاصرة. العملية أنقذت الأرواح لكنها كانت بطيئة جدًا، إذ استغرق توفير الكميات المطلوبة شهورًا، مع خسارة نحو 20% من الطرود بسبب الرياح أو السقوط في مناطق خارج السيطرة.
جنوب السودان 2014 – 2017: في مناطق المستنقعات والمناطق التي دمرتها الفيضانات والحرب، كان الإسقاط الجوي هو الوسيلة الوحيدة لإيصال الغذاء. غير أن التكاليف كانت ضخمة،
حيث قدّر برنامج الأغذية العالمي أن كلفة إيصال طن واحد من الحبوب جوًا بلغت نحو 5 أضعاف تكلفة إيصالها برًا.
هايتي 2010 – زلزال بورت أو برنس: أرسلت القوات الأمريكية وحلفاؤها مساعدات جوية بعد انهيار الطرق والموانئ. في الأيام الأولى، ساعدت هذه العمليات على إنقاذ الأرواح، لكنها شهدت فوضى في التوزيع، إذ اندلعت اشتباكات بين السكان بسبب الازدحام حول مناطق الإسقاط.
خلاصة المشهد
الإسقاط الجوي يبقى حلًا طارئًا لإنقاذ الأرواح في اللحظة الحرجة، لكنه باهظ الثمن وأقل كفاءة، كما أنه يعكس في كثير من الأحيان عجزًا سياسيًا وإنسانيًا عن معالجة الأسباب الحقيقية لانقطاع الإمدادات.
أما المعابر البرية، فهي الخيار الأكثر فاعلية واستدامة، لكنها تحتاج إلى إرادة دولية وضمانات أمنية، وهو ما يظل الغائب الأكبر في أزمات اليوم.
تشير بيانات الأمم المتحدة وتقارير الإغاثة الدولية إلى أن قطاع غزة يعيش فجوة ضخمة بين حجم المساعدات التي يحتاجها وحجم ما يصل فعليًا.
فبحسب تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، يحتاج القطاع يوميًا إلى 500 إلى 600 شاحنة إغاثة لتلبية الاحتياجات الأساسية من الغذاء والماء والدواء والوقود، في ظل الانهيار شبه الكامل للبنية التحتية والخدمات. هذه الكميات تشمل المواد الغذائية الكافية لحوالي 2.3 مليون نسمة، والأدوية الأساسية لمواجهة الأمراض المتفشية، ووقودًا لتشغيل المستشفيات ومحطات المياه.
لكن الواقع مختلف تمامًا؛ إذ لا يتجاوز ما يدخل فعليًا عبر المعابر – في أفضل الأحوال – شاحنات يتراوح عددها بين 60 و120 شاحنة يوميًا، أي أقل من 20% من الاحتياج الفعلي.
وفي الأيام التي تشهد تصعيدًا عسكريًا أو إغلاقًا للمعابر، قد ينخفض العدد إلى أقل من 30 شاحنة، وهو ما يعادل نسبة متدنية للغاية لا تكفي حتى لتغطية الاحتياجات العاجلة.
هذه الفجوة الهائلة تعني أن آلاف العائلات لا تحصل على الغذاء الكافي، وأن المستشفيات تعاني نقصًا حادًا في الأدوية والمستلزمات، بينما تتوقف بعض المرافق الحيوية عن العمل بسبب نفاد الوقود.
ويرى خبراء الإغاثة أن هذا العجز ليس ناتجًا فقط عن نقص الموارد العالمية، بل بالدرجة الأولى عن قيود الدخول والمعابر، التي تحدد كمية ونوعية ما يمكن إدخاله، ما يجعل الوضع الإنساني في غزة من بين الأسوأ عالميًا.
ضحايا إسقاط المساعدات: ثمنٌ بشري باهظ
في صباح يوم 8 مارس 2024، تحوّل مشهد فقدان الأرواح إلى عنوان مأساوي في مخيم الشاطئ شمال غزة، عندما سقطّت حزمة معونة غذائية من الجو بعد أن فشلت المظلة في فتحها. صدم الحطام أسطح البيوت ومجموعة من الناس كانوا يترقبون المساعدة. أسفر الحادث عن مقتل خمسة مدنيين وإصابة عشرة آخرين، بينهم أطفال؛ وقد أخلى العشرات إلى مستشفى الشفاء القريب لتلقي العلاج .
لاحقًا، حوّلت المعونات التي لم تستقر على الأرض إلى مأساة بحرية: حين سقطت أجزاء منها في البحر، غرق ما لا يقل عن 12 فردًا أثناء محاولتهم الوصول إلى ما يمكن إنقاذه من طرود .
ومن ضمن الصور المروعة للتوزيع العشوائي، سُجّلت أيضًا وفاة العشرات في تجمعات توزيع الغذاء البرية التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية (GHF)، ضمن خطة تُروج كبديل عن القنوات الأممية التقليدية. فقط خلال أيام قليلة،
وثّقت الإصابات والوفيات ما يقارب 1,370 حالة وفاة وإصابة أكثر من 2,000 شخص في محيط مراكز التوزيع هذه .
سرد إنساني للشهادة:
في غزة، حيث يشتد الجوع، تحوّل بعض محاولات الإنقاذ إلى فصول من الكارثة. سقطت طرود غذائية كأنها قنابل، متسببًا بخسارة أرواح بشرية في لحظة من الضياع. وفي مناطق أخرى،
قادت النزاعات والفوضى في مواقع توزيع المساعدات إلى سقوط مزيد من القتلى بالرصاص أو الدهس في تدافع المواطنين. كل مرفق توزيع أصبح حلبة للخطر، لا للإغاثة.
خلاصة مؤلمة:
الإسقاط الجوي للمساعدات قد يحمل نوايا إنسانية، لكنه في الميدان أحيانًا يُترجم إلى موت مدنيين. من الطرود التي تُسقط على رؤوس المنتظرين، إلى من يغرقون بحثًا عن بقايا طعام، وحتى أولئك الذين يُستهدفون في طوابير المساعدات—القصة تدعو إلى إعادة النظر الجذري في وسائل الإغاثة.