المعالم الفنية في قصة (أغصان جافة) للأديب محمد الشرقاوي

المعالم الفنية في قصة (أغصان جافة) للأديب محمد الشرقاوي
للأستاذ الدكتور: عاطف عبد اللطيف السيّد
(أستاذ الأدب والنقد المتفرّغ بكلية اللغة العربية بالزقازيق)

القصة فن من فنون الأدب ولون من ألوان النثر الفني يقصد بها ترويح النفس وتثقيف العقل، وتشف عن نفس كاتبها وشخصيته وأسلوبه وقدرته على تحريك الأحداث والشخصيات فيها، وقوة التأثير والقبول الحسن لدى القارئ(1).
والأديب محمد الشرقاوي له نتاج في مجال القصة القصيرة كبير، جاس خلال رياضه الزهراء فقطف منه ثمرة شهية من ثمار قريحته الخصبة، وأخرج لنا قصة قصيرة بعنوان (أغصان جافة)(2) بدت فيها براعته في العرض والتصوير، وتمكنه من التحرير والتحبير والتسطير، وظهرت من خلالها قدرته في تقصي أطرافها، والتطرق إلى كل ركن وزاوية فيها، والوقوف على أبكار المعاني وبواهر الكلم وشوادر الحِكَم من خلالها.
العرض الموضوعي للقصة:
تدور أحداث القصة حول الليلة الثانية من ليالي شهر رمضان المبارك وما حدث فيها أمام باب المسجد من ضجيج شديد صرف المصلين عن خشوعهم في صلاتهم وأضحوا في تلهف شديد لبيان هذا الأمر.
فالليلة الثانية من ليالي شهر رمضان هي زمان القصة، والشارع الكائن فيه المسجد الذي أقيمت فيه صلاة التراويح مكان أحداثها، وتتمثل شخصياتها في قارئ القرآن الكريم، والملامح المشرقة والابتسامة الصافية المستقرة على وجهه الناضر، ومن شخصياتها كذلك بعض الشباب الذين صدرت منهم أصوات مزعجة أمام باب المسجد، و(ماهر) ذاك الشاب الذي أحاط به الشباب ليجمع منهم الأموال لشراء المفرقعات والألعاب النارية وإلقائها على وجوه أصحاب الشارع المقابل لهم رداً على ما حدث منهم في الليلة الأولى من هذا الشهر الفضيل، ومن الشخصيات الحاج (عادل) وصديقه الأستاذ (كريم) اللذان حاولا أن يصرفا الشباب عن أفعالهم فلم يستطيعا ذلك، والمعلم (عزام) صاحب الصوت الجهوري، وأحد أصحاب المحلات التجارية المجاورة للمسجد، والذي أخبرهما بعدم قدرته على القضاء على هذا السلوك المرفوض.
المعالم الفنية:
هذا وقد تحققت في القصة بعض المعالم الفنية المتعلقة بعنوانها وأحداثها وزمانها ومكانها وشخصياتها وأسلوبها وغير ذلك من ألوان الجمال الفني فيها وتتمثل في ما يلي:
أولاً: عنوان القصة (أغصان جافة):
وفق الكاتب في اختيار عنوان قصته، فهو يشير من طرف خفي إلى هذه الشخصيات المرفوضة التي تنأى عن القيم الأخلاقية والفضائل الاجتماعية والتي تقوم بأفعال ضارة بالمجتمع وأفراده وتصرفات شاذة عن الخلق الكريم والسلوك القويم، فهذه الشخصيات المرفوضة تشبه الأغصان الجافة التي لم ترتو تربتها بالمياه العذبة لتثمر ثمراً طيباً شهياً، والتي نشأت نشأة صادمة، فترى فيها جفاف الأخلاق وجفاء الصفات الطيبة والأخلاق الفاضلة والأفعال الحسنة، ففي العنوان تشبيه بليغ، حُذف منه وجه الشبه فصارت تلك الشخصيات المرفوضة تشبه الأغصان الجافة في عدم الجدوى والنفع في كل شيء، وحذفت منه أداة التشبيه فأضحت تلك الشخصيات هي عين الأغصان لافرق بينهما في شيء، يؤكد ذلك ما رواه الكاتب في قصته من أن هؤلاء الشباب قابلوا الإساءة بالإساءة ولم يقابلوها بضبط النفس والسعي نحو السلامة والأمان، كما أن العنوان جاء بأسلوب النكرة (أغصان) والتنكير يفيد العموم والشمول، وهذا يوحي بأن هذا النوع من الشخصيات المرفوضة كثير في المجتمع، ينبغي الوقوف أمام أفعاله بالنصح والتوجيه السليم والإرشاد إلى حميد الخصال وجميل الفعال.
ثانياً: أسماء الشخصيات:
وفق الكاتب في اختيار أسماء شخصيات قصته، وهذه الشخصيات تنقسم إلى قسمين: الأول: شخصيات مقبولة وتتمثل في: شخصية إمام المسجد الذي قال عنه الكاتب بأنه يعطي المأمومين “جرعة إيمانية مركزة تسلك طريقها لتستقر في القلوب، ساعد في وصولها ذلك الصوت الملائكي لذلك الإمام ذي الملامح المشرقة والابتسامة الصافية المستقرة على وجهه الناضر”، ومن هذا النوع من الشخصيات شخصية الحاج عادل وصديقه الأستاذ كريم، وهاتان الشخصيتان تتصفان بصفات خيرة تمثلت في صفة الكرم والعدل والحكمة، حاولا من خلالها البحث عن حلٍ لهذا الأمر الجلل، وشخصية المعلم عزَّام وهي توحي بعزمه الشديد على أن يبحث عن حل لهذه المشكلة التي تضر بالأفراد والمجتمع، فهذه الشخصيات حاولت قدر جهدها أن تقدم حلاً لهذا الأمر الجلل فلم يتمكنوا من ذلك، والنوع الآخر من الشخصيات هي الشخصيات المرفوضة، وتتمثل في هؤلاء الشباب الذين يقفون خارج المسجد ويصدرون ضجيجاً متواصلاً “يقتحم الأجواء الإيمانية فيخطف جانباً من تركيز وخشوع المصلين…. اللازمة” ومن هذا النوع كذلك شخصية ماهر، ذاك الشاب المعروف في منطقته والذي يتصف بالمهارة في جمع الشباب حوله وقدرته على تحصيل المال منهم، ” والذي يقف على مسافة لا تتجاوز عشرة أمتار وقد أحاطه عدد من الشباب الذين يقدمون له مبالغ من فئة العشرة والعشرين جنيها”.
ومن هؤلاء كذلك المارة وبعض أصحاب المحلات الذين لم يقدموا نصحاً أو توجيهاً للشباب أو حلاً لهذا الأمر الخطير، بل ظلوا في صمت مميت.
ثالثاً: جمال الأسلوب القصصي:
يمتاز الأسلوب القصصي لدى الكاتب في قصته بميزتين، الأولى: براعة الاستهلال، والأخرى: جودة الختام، أما براعة الاستهلال فنشأت من اتكاء الكاتب على أسلوب السرد في بدء القصة، وهو أسلوب يُشوِّق القارئ إلى معرفة الأحداث والوقوف على تناميها وتصارعها، وبدا ذلك في تلك العبارات التي تنم عن ثقافته الواسعة، تلك الثقافة التي أمدته بالعبارات الرائقة والأساليب الفائقة، فما أجمل قوله حين يصف ما تحدثه صلاة التراويح في قلوب ونفوس المصلين، إذ تعطيهم “جرعة إيمانية مركزة تسلك طريقها لتستقر في القلوب… يضاف إليها تلك الأضواء الخافتة مما يعيد الهدوء والطمأنينة إلى النفس الحائرة… أحد عشر شهراً”، وما أبلغ وصفه للضجيج خارج المسجد حين يقول: “ضجيج يندفع من الخارج ويقتحم الأجواء الإيمانية فيخطف جانباً من تركيز وخشوع المصلين، وخاصة تلك الصفوف القريبة من الباب، أصوات لبعض الشباب يؤكدون سرعة جمع المبلغ المناسب للمهمة اللازمة،… أمر عظيم” هذا بالإضافة إلى اعتماد الكاتب على أفعال المضارعة التي تموج بالحركة وتوحي بتجدد الأحداث، وكذا التشبيه الجميل في قوله: “الأيام المباركة تبدو كنهر فياض يستعين به الإنسان في التخلص من أدران النفس التي تراكمت عبر أحد عشر شهراً”، فمثل هذه العبارات وتلك الأساليب إنما تعبر تعبيراً صادقاً عن موهبة الأديب في فن القصة القصيرة، وثقافته الواسعة التي استوحى منها رؤاه الموضوعية وبدت من خلالها السمات والخصائص الفنية. والسمة الأخرى للأسلوب القصصي في القصة فتتعلق بجودة ختامها حيث إن الكاتب ترك ختام القصة مفتوحاً لإعطاء الحرية للقارئ في وضع الحلول المتعددة المناسبة.
رابعاً: عنصر التشويق والعقدة والحل في القصة:
تبدو قدرة الكاتب على تنامي الأحداث وتصارعها وتحقق عنصر التشويق لدى القارئ فيها، فيما بين براعة الاستهلال وجودة الختام ويتضح ذلك حين يهرول المصلون في لهفة شديدة لسماع تسليم الإمام، فيهرول المصلون نحو أحذيتهم لمعرفة ما يجري خارج المسجد، ويتصاعد عنصر التشويق حين يشاهدون الشباب وقد أحاطوا بماهر، ذاك الشاب الذي يجمع منهم المال، وتتنامى الأحداث وتُطل الاستفهامات على ألسنة الحاج عادل وصديقه الأستاذ كريم: “هل سيجمعون أموالاً للفقراء والمساكين والأيتام من أهل المنطقة؟ هل سيجمعون الطعام لأهل غزة لتخفيف محنتهم؟ هل سيقيمون موائد إفطار لغير القادرين؟ هل حدثت ظروف طارئة عند أحد سكان الشارع؟ … يطلب الحاج عادل من صديقه عدم التعجل لحين التحقق من الأمر.”، يقول الكاتب: “تظل الإجابات حبيسة لدى ماهر وأصدقائه، تزداد دهشة الرجلين، وتزداد كذلك رغبتهما في إدراك حقيقة ما يحدث”.
وهذه الأسئلة وتلك الاستفهامات تعد عقداً تتطلب حلولاً محددة، فيأتي الحل على لسان المعلم عزَّام صاحب محل من المحلات التجارية في المنطقة، فيقول لهما: “إن هؤلاء الشباب يجمعون الأموال لشراء المفرقعات والألعاب النارية المختلفة… بينما ظل المارة وأصحاب المحلات في صمت مميت”، ورأى الكاتب في ختام قصته أن يترك للقارئ الحرية في أن يضع الحل المناسب لها فيقول: “تتعانق نظرات الحاج عادل مع نظرات صديقه،… ولكن تظل مشاعر الألم والحسرة تجمع بينهما على وعد بالبحث عما يستطيعان من الحلول”
والحق إن قصة الأديب محمد الشرقاوي فيها من المعاني السامية والأفكار الهادفة، والرؤى والمضامين المهمة، خطَّتها يراعه بإلمام وإحكام، وسطرها قلمه بجودة وإتقان، وهذا إن دل فإنما يدل على تمكنه من هذا الفن، وقدرته على خوض غماره وسبر أغواره.
د. عاطف عبد اللطيف السيّد
—————
المراجع والهوامش
1ـ تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات. دار نهضة مصر للطبع والنشر الفجالة القاهرة ص393.
وينظر: تطور فن القصة القصيرة في مصر من سنة1910م: سنة 1933م لسيد حامد النساج. الناشر دار الكاتب العربي للطبع والنشر بالقاهرة سنة1968م. ص128.
2ـ مجلة الأمة الثقافية. 6مارس. سنة2025.