في عالمٍ يفيض بالأفكار والتجارب، ويزداد فيه تدفق المعرفة بلا حدود، يظهر كتاب “المعكننون” للباحثة في علم النفس العصبي تالي شاروت، مترجماً ضمن سلسلة ملخص كتاب – معارف، كصرخة تحذير من أخطر الأدواء الفكرية التي تصيب العقول: الانغلاق والتقوقع حول المعتقدات الضيّقة.
وفي العامية المصرية: بلاش عكننة = بلاش نكد.. فالعكننة هي النكد، والمعكننون هم النكديون المكتئبون
العنوان ودلالته
العنوان بحد ذاته مثير. فكلمة “المعكننون” كلمة مألوفة في الحياة اليومية العربية، تُطلق على من يثيرون الجدال العقيم ويغلقون كل باب للحوار.
وهنا تحوّلها المؤلفة إلى مصطلح علمي–اجتماعي يعكس شخصية الإنسان الذي يرفض التغيير، ويصرّ على قناعاته حتى لو خالفت الواقع والمنطق.
الفكرة والمضمون
الكتاب يطرح أسئلة مفتاحية:
من هم المعكننون؟
كيف يمكن التعامل معهم؟
وكيف نتجنب أن نصبح مثلهم؟
وتجيب المؤلفة بأن هؤلاء الأشخاص ليسوا مجرد شخصيات صعبة المراس، بل هم ضحايا لعقلية مغلقة تمنعهم من رؤية العالم كما هو. الانغلاق الفكري –كما تصفه– يحرم الإنسان من فرص التعلّم والنمو، ويحوّله إلى أسير لقوالب فكرية جامدة.
وتؤكد أن التعامل مع المعكننين يتطلب وعياً وصبراً، لا جدالاً مباشراً، لأن الجدال معهم يستنزف طاقة لا تنتهي. أما الحل الحقيقي فيكمن في تنمية عقلية الانفتاح: الإصغاء، الاعتراف بالخطأ، وتجربة الأفكار الجديدة دون خوف.
أهم المقولات في الكتاب
“الانغلاق الفكري يجرّدنا من فرص التعلّم والنمو، ويجعلنا أسرى لمعتقدات ضيّقة تمنعنا من رؤية العالم كما هو”.
“المجادلة مع من لا يريد أن يسمعك استنزاف، والانسحاب أحياناً حكمة”.
“التغيير يبدأ حين ندرك أن التشبث بالرأي ليس انتصاراً، بل هزيمة صامتة للعقل”.
حضور المعكننين في حياتنا
توضح شاروت أن المعكننين موجودون في كل مكان:
في العمل: حيث يُعيقون الأفكار الإبداعية.
في الأسرة: حيث يرفضون أي أسلوب جديد للتربية أو الحوار.
في السياسة والدين والمجتمع: حيث يتحولون إلى أصوات عالية ترفض التعددية، وتغلق الأبواب أمام النقاش الحر.
مقارنات مع الفكر العربي
القارئ العربي سيجد أن فكرة الكتاب ليست بعيدة عن تراثنا الفكري. فقد تناولها عدد من المفكرين:
يوسف القرضاوي في كتابه “الصحوة الإسلامية بين الجمود والتجديد”، حيث اعتبر أن الجمود على الماضي يقتل روح الاجتهاد.
عبد الله بن بيّه في كتابه “التكفير: جذوره وأبعاده”، الذي بيّن فيه كيف يقود الانغلاق إلى أخطر صور الإقصاء وهي تكفير الآخر.
مالك بن نبي في “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، الذي أوضح أن الأفكار إذا تحوّلت إلى أصنام لا تقبل النقد، تصبح عائقاً أمام النهضة.
سيرة المؤلفة
تالي شاروت عالمة نفس عصبي بريطانية، درست سلوك الإنسان وآليات اتخاذ القرار، ولها مؤلفات تهدف إلى ربط علم النفس بواقع الحياة اليومية، مركّزة على أثر المعتقدات والعواطف في تشكيل رؤيتنا للعالم.
أهمية الكتاب
تكمن قيمة “المعكننون” في كونه دعوة إلى النقد الذاتي أولاً، قبل توجيه أصابع الاتهام إلى الآخرين. فهو يذكّرنا أن كل واحد منا قد يقع فريسة للانغلاق في موقف أو آخر، وأن الانفتاح ليس ترفاً فكرياً، بل شرطاً أساسياً للتطور الفردي والجماعي.
“المعكننون”
كتاب يفتح نافذة على مشكلة عالمية بلسان مبسط، ويحثّ القارئ على مواجهة الانغلاق داخل نفسه قبل أن يواجهه في الآخرين. إنه مرآة صادقة تكشف عيوب العقل المتحجّر، ودعوة شجاعة لإعادة النظر في طرائق تفكيرنا، لعلّنا نتحرر من أسر “العكننة الفكرية” ونفتح أبواباً أوسع نحو النمو والتجديد.