“المنسحبون”.. لـ : مجيدة مُحمّدي

هؤلاء الذين يقفون عند الحافة،
لا إلى الضوء ولا إلى الظل،
لا يزرعون، ولا يحصدون،
يرتدون قميص “ربما”،
ويعلّقون أعمارهم على شماعة “لاحقاً”.
يمشون بخطى مترددة.
خشية أن يوقظوا رغباتهم،
يشربون الماء قطرة قطرة كمن يخشى أن يُبلّل ذاته.
يتنفسون بنفس متقطع ،
كأن الحياة لا ينبغي أن تلاحظ وجودهم.
في رؤوسهم مدينة قديمة،
أسوارها من أسئلة دون أجوبة،
وفي قلوبهم سلال من “لو”،
وأحلام ملفوفة في مناديل الاعتذار.
يعرفون الطريق،
و يخافون أن يكونوا نسوراً،
و يفضلون أن يكونوا طيورا مدجنة .
يكتبون أسماءهم على الرمل،
ثم يمحونها بأنفسهم.
ينامون قرب نواياهم المؤجلة،
يحضنون رغباتهم المهجورة،
ويربتون على أحلامهم الباهتة
كأنها قطط شاردة لا تستحق الدفء.
يعيشون في تلك الفجوة اللزجة،
حيث لا شيء يُثمر،
ولا شيء يموت تماماً.
هم الذين لا يكونون،
ولا يختفون.
أطياف في مرايا الآخرين،
صدى لأصوات لم يطلقوها يوماً.
ينظرون الى الأبواب،
لكنهم يخافون المفاتيح.
ينبهرون بالطيران،
لكن أجنحتهم مصنوعة من “ماذا لو؟”.
إنهم لا يخسرون،
ولا ينتصرون،
لا يبكون،
ولا يضحكون بصوتٍ عال،
كأن مشاعرهم مزوّدة بكاتم صوت.
ليسوا شجعاناً بما يكفي
ليكونوا أنفسهم،
يلبسون أقنعة حسب المناسبة،
وينسلّون من الحياة
كما ينفلت المعنى من جملة مهجورة.
أراهم في المرايا المغبّشة،
وجوه بلا ملامح،
يمضون في الازدحام
كأنهم لا يريدون أن يُلاحظوا،
كأن الضوء عدوّ،
والصوت جريمة،
أحلامهم بلا صوت ،
كأنها نُطقت في زمنٍ آخر،
بفمٍ ليس لهم.
وكلما اقتربوا من أنفسهم،
تراجعوا،
خشية أن يروا الحقيقة عارية
يجلسون عند نوافذ الآخرين،
يتنصّتون على الحياة
من خلف الزجاج،
ينتظرون أن يدعوهم أحدٌ للدخول،
ولا يدركون أن الأبواب
لا تُفتح إلا لمن يطرقها بشغف.
يلبسون الأسماء كمعاطف مستعارة،
يضحكون بنصف وجه،
ويحبّون بنصف قلب،
كأن اكتمالهم جرم
والنقص فضيلة.
تراهم يصفّقون لكل العابرين،
يهلّلون للخيارات التي لم يختاروها،
ويشعلون الشموع للطرق التي لم يسلكوها،
كهنة الاحتمال،
وعبّاد التأجيل،
وملوك الـ”ربما”.
لكن الحياة لا تُعطى
لمن ينتظرها
كهدية مجهولة.
ولا تُمنح لمن لم يجرؤ
أن يُخيف نفسه قليلاً
ليعرف ما فيها.