اكتظت المطارات عن آخرها وما زالت صافرات الإنذار تواصل دويها دون توقف في كل الأحياء المجاورة، قذيفة واحدة محلية الصنع من أصحاب الأرض فعلت ما لم يكن في الحسبان، لم يخطر ببال أحد قاطني هذه الأحياء – والتي تعتبرها قيادات الاحتلال من أكثر المناطق أمنا على تلك الأراضي المغتصبة – أن يسودها رعب من أقصى الدرجات حسب تصنيفهم، الجميع يهرولون بلا توقف، النساء عاريات تماما يلقين بكل شيئ – حتى أطفالهن – من أجل الهرب، الكبار يتساقطون تحت أقدام المارة دون أدنى مساعدة، الشباب في سباق محموم دون وعي، الوجوه تفيض بكل ملامح الرعب، حتى سيارات الإسعاف عجزت عن أداء دورها وهرب سائقوها، ما هذا الجحيم! دقات القلوب تشير إلى أقصى سرعة لها، ولا تزال الصافرات تواصل رنينها وكأنها سياط تلهب ظهورهم جميعا.
حوارات غاضبة متواصلة تدور بين المتزاحمين انتظارا لقدوم طائرة بعد إقلاع سابقتها، تتطاير العبارات بين الأسماع: لا أمان لنا في تلك الأرض، فهذه ليست بلادنا وكلنا نعلم ذلك، إنها لا تتوقف عن إنجاب الأبطال، إنهم يقهروننا دون سلاح، فكيف لو حازوا بعض ما لدينا من أسلحة متطورة، يؤكد الهاربون على التوجه لأي مكان بعيد عن هذا الجحيم، بينما يتسائل آخرون عن وجهتهم بعد المغادرة، يؤكد أحدهم أنه سيعود إلى موطنه الأصلى في أمريكا، بينما يؤكد آخر أن والديه ينتظران عودته لهما في إنجلترا، وهذا يؤكد أن مسكنه ما زال فارغا في فرنسا، أما تلك السيدة فتؤكد عودتها إلى كندا، أما هذا العجوز فيعلن عن رغبته في قضاء بقية أيامه في ألمانيا حيث نشأ وتعلم وعاش مع والديه، هكذا اختلفوا في تحديد وجهاتهم لكنهم اتفقوا جميعا على أن بلاد العرب للعرب مهما طال الزمن.
صوت جهوري يفرض الصمت على الجميع، تتابع العيون بشغف، يزداد إصرارهم على المغادرة وخاصة عند رؤية تلك الصور التي تعرض دباباتهم التي سقطت في إيدي أبطال المقاومة، ما زال الصوت متدفقا بقوة وثقة، إنه أبو عبيدة، هذا البطل الملثم الذي أصبح حديث العالم، يبدو عبر الشاشات والهواتف ليفضح أكاذيب المحتلين، كما يشد من أزر شعبه الذي لم يضعف عزيمته تخاذل العالم من حوله، الدهشة تغمر الوجوه، تتسائل بشغف: ما هذا الفداء؟! وما هذه البطولة؟! إنهم لا يهابون الموت، بل إنهم يسعون إليه بكل سعادة وحماس. يواصل أحد الصهاينة قائلا: لقد دمرنا مدنهم وقراهم ومزارعهم ومستشفياتهم ومدارسهم وما لانت عزيمتهم. لقد قتلناهم بأبشع أنواع الأسلحة وأحدثها لكنهم ما زالوا أقوياء صامدين، لقد هدمنا المنازل على رؤوسهم وهم أحياء وما خضعوا ، لقد منعنا عنهم المساعدات الغذائية والعلاجية ولم يستسلموا ، لقد دمرنا فلسطين بالكامل لكن لم نمس عزيمة أبنائها، لقد فعلنا ما لم يفعله الشيطان ولكنهم هزمونا بالإيمان، يستمع الجميع وتتبادل عيونهم النظرات ، تبدي ندمها على قدومها لتلك الأرض العربية، يقول أحدهم: لقد أيقنت الآن أننا أخطانا الطريق منذ قدومنا، لنعود إلى بلادنا ولتبقى بلاد العرب لأصحابها.
يتحد صوت صافرات الإنذار في الأحياء المجاورة مع صوت الإذاعة الداخلية للمطار والتي تعلن عن وجود طائرة تستعد للتوجه إلى باريس خلال دقائق، يتدافع الجميع دون انتظام، يتسابقون نحو سلم الطائرة، يحاول القوي منهم إزاحة الضعيف، كما يحاول الذكور إبعاد النساء، يختفي الأطفال تماما من المشهد، لقد تركوهم على قارعات الطرق وبجوار صناديق القمامة، امتلأت الطائرة عن آخرها ولا تزال المشاجرات قائمة عند أسفل السلم، بحتدم الصراع ويتبادل الجميع الاتهامات والتساؤلات عن شعارات احترام المرأة والطفل والمسن ، يهتف أحد الواقفين – وهو من كبار السن القارئين للتاريخ – معلنا سقوط قيادات الاحتلال الصهيوني التي خدعتهم والتي جلبت لهم الكراهية والعداء من كل بلاد العالم وشعوبه التى لا تتوقف عن التظاهر ضد هذا الكيان المحتل: لقد فقدنا الأمان ليس هنا فحسب ولكن في كل بقاع الأرض، لن أفكر في العودة إلى هنا ما دمت حيا.
————————–
– من المجموعة القصصية (لحظة نور)