في مركز ياد فاشيم بالقدس المحتلة، تعلو سردية ضحايا، يُخلد ذكرى اليهود الذين قضوا في محرقة النازيين، كرمز للمظلومية التي تملك الذاكرة الجماعية لديهم فيما اسموه” الهولوكوست”، والتى شكك فى حدوثها بعض المؤرخين.
لكن، بين جدران هذا الصرح ، تتراكم الأسئلة التي لا تزال تُثرثر في قلب كل من يتابع الظلم والاضطهاد على مر التاريخ: هل يُرمم المظلومية، ويُستثمر الألم، ليُبرر أبشع أنواع القتل والتدمير والإبادة الجماعية لشعب فلسطين الأعزل وارضه المحتلة والمغتصبة على يد من يدعون المظلومية؟،
تبدأ هنا رحلة البحث عما وراء السردية المظلومية، وكيف تُوظف رواية الهولوكوست كدرع سياسي، أو أداة لتعزيز الاحتلال والاضطهاد ضد شعب بريىء ومحاصر من العالم ويعذ كل لحظة ، في قلب غزة العزة؟
السردية الإسرائيلية اليوم: المظلومية كدرع وذراع
بعد أن كانت مأساة الهولوكوست صدمة إنسانية عميقة- على حد وصفهم- ، استثمرها الصهاينة على مر العقود لبناء سردية وطنية ومظلومية مستدامة. فالإسرائيليون يروون قصتهم كضحايا دائمين، يتعرضون لمخاطر الوجود، ويحتاجون إلى حماية دائمة، بل وحصانة من إعادة تكرار المأساة.
المظلومية ذريعة
وفي سياق الاحتلال، أصبحت المظلومية ذريعة ووسيلة لتبرير عمليات الاحتلال والعدوان. يستخدم السياسيون االصهاينة سردية الهولوكوست كحائط صد يُحَصِّنُ مواقفهم، معززَين الإحساس بالخطر الداهم، والخوف من تكرار المأسوية، رغم أن التاريخ مختلف، والأحداث الحالية تتشابك مع سياقات معقدة من الصراع والأرض.
تُبرز وسائل الإعلام الصهيونية، من خلال الخطاب الرسمي والإعلام الموجه، أن هناك تهديدات مستمرة، وأن الفلسطينيين يشكلون خطرًا وجوديًا، مما يبرر استراتيجيات السيطرة، والمستوطنات، والحصار، وتصعيد العمليات العسكرية، بزعم حماية حياة الصهاينة من خطر مشابه لما حدث خلال الهولوكوست.
حملة مستمرة
وفي الوقت ذاته، تُحشد الرموز والذكرى، مثل معبد ياد فاشيم، في حملة دائمة لتذكير المجتمع الدولي، والعالم، بأن حكومة الصهاينة تُحاط بناس يبدون كضحايا دائمين، لذلك فإن حق الدفاع عنها غير قابل للنقاش، وأنها تستحق مكانًا خاصًا في قلب التاريخ الإنساني.
وفي الممارسات اليومية، تستخدم تلك السردية لتبرير سياسة الفصل، والحصار، والعمليات العسكرية، التي يراها العالم كله حتى بعض اليهود المنصفين فى تل ابيب لديهم قهرًا واحتلالًا وتجويعا وابادة جماعية وظلم، بينما تصِر الرواية الصهيونية على أن كل ما يُفعل هو للدفاع، بحجة ألا تتكرر مأساة الهولوكوست مرة أخرى، حتى ولو كان الثمن هو إبادة الفلسطينيين في غزة.
يكمن السؤال في مدى استدامة استخدام المظلومية كدرع، ومدى قدرة العالم على التفريق بين العدالة الإنسانية والبيانات السياسية التي تلبس ثوب التاريخ. فالقضية الفلسطينية، واحدة من أكبر الاختبارات للضمير العالمي، ليتوقف عن الكيل بمكيالين، ويعي أن استثمار الألم القديم من أجل تبرير الظلم الجديد، لن يفضي إلا لنهايات مؤلمة للجميع.
اين العدالة والانسانية؟
وفي زمن تتكرر فيه المآسي، تظل الحقيقة الأهم أن العدالة والإنسانية تستحق أن تكون أعلى من خطابات المظلومية، وأن التاريخ لا يرحم من يستخدمه كورقة للسيطرة والاحتكار، خاصة عندما يُنتهك حق شعب بأكمله في الحرية والكرامة.
تحول جذرى
يقول ايهاب جبارين محلل سياسي وخبير في الشؤون الإسرائيلية: إن ما قاله يوسي بيلين أحد مهندسي اتفاق أوسلو في مقابلة عام 2024 لم يكن مجرد ملاحظة عابرة بل كشفا لتحول جذري في الهوية الإسرائيلية عندما وصف سياسات إسرائيل في غزة بأنها تشوه ذكرى الهولوكوست، كان يشير إلى انهيار المبرر الأخلاقي الذي قامت عليه الدولة العبرية.
ويضيف: “تحت قيادة بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة شهدنا تحولا دراماتيكيا في السردية الإسرائيلية من خطاب الضحية المستند إلى الهولوكوست إلى خطاب المحارب التوراتي المستند إلى أسفار العهد القديم لقد تم استبدال شعار لن يتكرر الهولوكوست بشعار أرض الميعاد كمبرر جديد للسياسات القمعية”
استنزاف الذاكرة
لعقود ظلت إسرائيل تستخدم ذكرى الهولوكوست كدرع أخلاقي يحميها من النقد الدولي من اجتياح بيروت 1982 إلى حصار غزة 2007 لكن الاستخدام المفرط لهذه الذاكرة حولها إلى مجرد أداة سياسية قابلة للاستدعاء والإهمال حسب الحاجة.
كما كتب المحلل ألوف بن، في هآرتس 2023 لقد تحولت ذكرى الهولوكوست إلى مجرد كليشيه بفعل الاستغلال السياسي مما سمح لإسرائيل بتجاوز الضوابط الأخلاقية.
التحول إلى السردية التوراتية
في مواجهة هذا التناقض لجأت حكومة الصهاينة إلى استدعاء النصوص التوراتية كمصدر جديد للشرعية فتحولت شخصيات مثل يشوع بن نون وجدعون إلى رموز عسكرية تستخدم لتبرير العمليات في الضفة وغزة.
وفي المحافل الدولية بدأ نتنياهو يستخدم مصطلحات مثل أرض الميعاد وأرض إسرائيل التاريخية بينما في الداخل يستخدم الوزراء المتطرفون مثل بن غفير وسموتريتش النصوص الدينية لتبرير الاستيطان.
التجويع كسلاح
الأكثر إثارة للقلق هو تحول التجويع إلى سياسة ممنهجة فتقارير الأمم المتحدة 2024 تشير إلى أن 70 % من سكان غزة يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد وهو وضع يتناقض جذريا مع خطاب الضحية الذي تبنته إسرائيل لعقود.
وكما كتب يوآف ليمور في يديعوت أحرونوت عندما نستخدم الجوع كسلاح لا نفقد أخلاقنا فقط بل نفقد هويتنا كضحايا.
القطيعة الوجودية
ما تشهده إسرائيل اليوم هو قطيعة وجودية مع هويتها التأسيسية، فبعد أن كانت تقدم نفسها كضحية التاريخ أصبحت تقدم نفسها كمحقق النبوءات التوراتية لكن هذه التحولات تطرح أسئلة مصيرية:
فهل يمكن لدولة تمارس القمع والتجويع أن تحافظ على شرعيتها الدولية وهل يمكن للعالم أن يظل صامتا أمام دولة تحولت من الضحية إلى الجلاد؟
الإجابة تكمن في قدرة الفلسطينيين وحلفائهم على فضح هذه التناقضات وتحويلها إلى نقاط ضغط دولية لأن العدالة لا تنتظر لا ضحايا الهولوكوست ولا محققي النبوءات التوراتية.