بين سرديات الألم التاريخي، وواقع المصالح السياسية، تبقى الهولوكوست واحدة من أكثر قضايا القرن العشرين حساسية، غير أن استخدام هذه الحادثة كورقة ضغط دائم، خاصة في العلاقات بين إسرائيل وألمانيا، يطرح تساؤلات أخلاقية وسياسية عميقة حول الحدود بين إحياء الذاكرة، واستغلالها.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحوّلت الهولوكوست – التي راح ضحيتها ملايين اليهود وغيرهم على يد النظام النازي – إلى قضية مركزية في السياسة الدولية، خصوصًا في العلاقات بين إسرائيل وألمانيا، ولكن وفقًا لسلسلة من الوثائق والشهادات والتقارير الصادرة عن مؤسسات غربية، فإن الكيان الصهيوني لم يكتفِ بإحياء الذكرى، بل حوّلها إلى أداة ضغط وابتزاز سياسي واقتصادي ممنهج، استمرت لعقود وما تزال آثارها مستمرة حتى اليوم.
لوكسمبورغ.. البداية الرسمية للابتزاز
في عام 1952، وقّعت ألمانيا الغربية وإسرائيل اتفاقية لوكسمبورغ، التي قضت بدفع 3 مليارات مارك ألماني كتعويض عن “معاناة اليهود في الهولوكوست”، وبحسب وثائق الأرشيف الألماني (Bundesarchiv)، لم يكن الاتفاق وليد التفاهم الأخلاقي، بل نتيجة ضغوط شديدة مارستها إسرائيل واللوبيات اليهودية، بلغت حدّ التهديد بحملة دولية لعزل ألمانيا في حال رفضت الدفع.
ونقلت صحيفة هآرتس الإسرائيلية (2012) عن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، ديفيد بن غوريون، قوله إن “ألمانيا لن تدفع إلا إذا شعرت بالذنب والخوف”، في إشارة صريحة إلى توظيف الشعور الجماعي بالذنب الألماني كأداة سياسية.
“الذاكرة التاريخية” وسلاح المحاكم
في الستينيات، استخدمت إسرائيل ورقة “التهديد بمحاكمة مجرمي الحرب الألمان” للضغط على برلين من أجل دعم مشاريع إسرائيلية، ويشير كتاب The Claims of Memory )) إلى أن إسرائيل لوّحت بنشر وثائق تدين ألمانيا مباشرة إذا لم تلتزم بتمويل برامج معينة.
وفي برقية كشفها موقع ويكيليكس (2009)، جاء أن إسرائيل استغلت “الذاكرة التاريخية للهولوكوست” كوسيلة ضغط لتحقيق مكاسب في صفقات تسليح.
الغواصات الألمانية.. والتهديد بالتشهير
في عام 2017، فجّرت قناة ARD الألمانية قضية استخدام إسرائيل “وثائق حساسة” كأداة تهديد لإجبار الحكومة الألمانية على الاستمرار في دعم برنامجها الصاروخي، ثم تطورت المسألة إلى ما يُعرف بفضيحة صفقة الغواصات (2019–2023)، والتي كشفت وجود شبهات فساد وتهديدات إسرائيلية غير مباشرة باستخدام الهولوكوست كغطاء للحصول على مزيد من الدعم.
وتشير تقارير صحف مثل دي فيلت وهآرتس إلى أن مسؤولين إسرائيليين حذّروا برلين من “عواقب قانونية وسياسية” إذا تم وقف الصفقة، ملمّحين إلى أن العالم “لن ينسى ما فعله الألمان”.
الابتزاز مستمر.. والتعويضات متجددة
في عام 2023، طالبت إسرائيل ألمانيا بدفع 1.5 مليار يورو سنويًا كتعويضات جديدة لما أسمته “الناجين المتقدمين في السن”، وقالت تصريحات رسمية نقلها موقع DW الألماني إن “ألمانيا لم تفِ بعد بالتزاماتها الأخلاقية”، في تجديد مستمر لمطالب التعويض، رغم مرور نحو ثمانين عامًا على نهاية الحرب.
وجهة نظر نقدية: “صناعة الهولوكوست”؟
يتبنّى بعض المفكرين اليهود أنفسهم هذا الطرح النقدي، من أبرزهم الأكاديمي نورمان فينكلشتاين، في كتابه الشهير The Holocaust Industry، الذي وصف فيه كيف تحولت معاناة اليهود في الحرب إلى “صناعة عالمية مربحة” يتم من خلالها حصد تعويضات وإسكات الانتقادات، مشيرًا إلى أن ذلك أساء لذكرى الضحايا الحقيقيين، وقال: “الهولوكوست أكبر عملية احتيال أخلاقية في التاريخ الحديث.”
كما تكشف مذكرات سرية صادرة عن وزارة الخارجية الألمانية عام 1965، تم رفع السرية عنها لاحقًا، عن “مخاوف جدية داخل الأوساط السياسية الألمانية من ابتزاز مستمر تمارسه إسرائيل باسم التاريخ”.
تجميد الهوية
وقال إسرائيل شاحاك أستاذ كيمياء في الجامعة العبرية في القدس، وناشط حقوقي: “تم تجميد الهوية اليهودية في دور ‘الضحية الأبدية”، مما أعطى إسرائيل ترخيصًا أخلاقيًا مفتوحًا لفعل أي شيء، دون محاسبة.”
ويرى أن الهولوكوست تُستخدم سياسيًا لتبرير الاحتلال والاستيطان، وتُستحضر عند أي انتقاد لإسرائيل كوسيلة لإسكات الأصوات المعارضة.
أما توني جَدت المؤرخ اليهودي البريطاني، وأستاذ في جامعة نيويورك، فكتب بمقال له فى”نيويورك ريفيو أوف بوكس”: “تم تجنيد ذكرى الهولوكوست لتبرير سياسة قومية عدوانية، وتُستخدم لتقويض النقد المشروع ضد إسرائيل.”
واعتبر أن الهولوكوست تحوّلت إلى “دين مدني”، وأي تشكيك في طريقة استغلالها يُقابل بالتخوين والتكفير السياسي.
ابتزاز اليهود
ولم يكتب الفيلسوف الفرنسى جاك دريدا، مباشرة عن “ابتزاز الهولوكوست”، لكنه ناقش “سياسات الذاكرة”، معتبرًا أن تسييس الذكرى التاريخية يخلق نوعًا من “الابتزاز الأخلاقي” على المجتمعات الحديثة، وقال: “عندما تتحول الذاكرة إلى سلاح سياسي، فهي تكف عن أن تكون ذاكرة، وتصبح أداة للهيمنة.”
ورأى الفيلسوف الإيطالى جيورجيو أغامبين فبما كتب عن العلاقة بين السلطة والمآسي الجماعية، أن الهولوكوست أصبحت “مؤسسة رمزية للشر” تُستخدم لتبرير ممارسات حديثة باسم “مكافحة الشر المطلق”، وينتقد استغلال الضحايا لتبرير أنظمة قمعية جديدة.
التأثيرات السياسية العالمية
أثرت السردية لمحارق اليهود واستغلالها بشكل محترف، فى إضفاء الحصانة السياسية على إسرائيل، وتُستخدم كدرع أخلاقي دائم ضد أي نقد يوجَّه لإسرائيل، خصوصًا فيما يتعلق بانتهاكاتها بحق الفلسطينيين.
فأي دولة أو شخصية تنتقد إسرائيل تُتهم فورًا بـ”معاداة السامية”، حتى لو كان النقد سياسيًا أو حقوقيًا، ما يجعل كثيرًا من الدول تتجنب اتخاذ مواقف حازمة ضد الاحتلال.
وعلى سبيل المثال، فأثناء عدوان غزة (2008، 2014، 2021)، تجنبت العديد من الدول الأوروبية إدانة إسرائيل بوضوح، رغم توثيق الانتهاكات، خشية التعرض لحملات اتهام بمعاداة السامية.
قوانين تُشرّع الرواية الصهيونية
استُغلت الهولوكوست لفرض تشريعات في عدة دول أوروبية تجرّم “التقليل من شأن المحرقة” أو “التشكيك في تفاصيلها”، وهو ما اعتبره بعض المفكرين اعتداءً على حرية البحث والتعبير.
ومررت عشرات الدول قوانين ضد “إنكار الهولوكوست”، بينما لم تصدر قوانين مشابهة لحماية ضحايا جرائم الاستعمار أو إبادة الأرمن أو مجازر أطفال غزة، والإبادة الجماعية لشعب فلسطين.
بل أن فى فرنسا، وألمانيا، والنمسا، وسويسرا، وبلجيكا قوانين تجرّم أي خطاب “يمس الرواية الرسمية للهولوكوست”.
وبولندا أقرّت قانونًا (2018) يجرّم من يقول إن بولندا شاركت في جرائم النازيين، تحت ضغط إسرائيل.
التحكم في قرارات الأمم المتحدة
ويتم توظيف ذكرى الهولوكوست داخل المحافل الدولية لتبرير الدعم الغربي الدائم لإسرائيل، وعرقلة أي قرارات تدين انتهاكاتها.
والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يستخدمان “واجب عدم تكرار مأساة الهولوكوست” كتبرير غير مباشر لدعم “أمن إسرائيل”.
تعويضات مالية ضخمة ومستمرة
ألمانيا وحدها دفعت أكثر من 100 مليار دولار منذ 1952 لإسرائيل ولأفراد نجوا من المحرقة، وشركات تأمين ومصارف ومؤسسات مالية غربية أُجبرت على دفع مليارات الدولارات تحت ضغط لوبيات يهودية، ففي تسعينيات القرن العشرين، أجبرت منظمات يهودية مصارف سويسرية على دفع أكثر من 1.25 مليار دولار بدعوى إخفاء أموال يهودية خلال الحرب.
تمويل صناعات إسرائيلية استراتيجية
بعض المساعدات والتعويضات توجّه لتمويل مشاريع إسرائيلية في التكنولوجيا والأمن والتسلح.
وبرامج تعويض “الناجين” تُدار أحيانًا بشفافية محدودة، ما أثار انتقادات بأن الأموال لا تصل إلى الضحايا بل تُستثمر سياسيًا.
ابتزاز اقتصادي للدول الأخرى
الضغط الاقتصادي طال دولًا أخرى غير ألمانيا، مثل سويسرا، والنمسا، وفرنسا، وبولندا، والولايات المتحدة، وبعض هذه الدول دفعت مليارات أو غيّرت قوانينها لتفادي العزلة السياسية والإعلامية.
احتكار السردية الأخلاقية
الهولوكوست أصبحت مرجعية شبه مطلقة للشر، ما قلّص الاهتمام بمآسٍ أخرى – مثل المجازر الاستعمارية في إفريقيا، ونكبة فلسطين، وإبادة الأرمن.
ملايين الضحايا غير اليهود أُهملوا في الرواية الغربية الرسمية، ما أنتج “تراتبية أخلاقية” في تقييم المعاناة.
إنتاج ثقافي ضخم لخدمة الرواية
هوليود، والإعلام الغربي، والمناهج التعليمية في أوروبا وأمريكا، جميعها خصصت موارد هائلة لترسيخ الهولوكوست باعتبارها الحدث المركزي في التاريخ الحديث.
في المقابل، يتم تجاهل أو تشويه الروايات المتعلقة بالنكبة الفلسطينية أو الاستعمار الأوروبي، أو الإبادة الجماعية التى ترتكبها دولة الإحتلال ضد شعب أعزل بأطفاله ونسائه وشيوخه ولايردعهم أحد أمام أعين العالم، يشاهدون المجازر كل لحظة، وأقصى مايفعلون: يشجبون ويستنكرون.
لكن هذا الاستخدام المفرط والمصلحي، كما يحذر كبار المفكرين، يُهدد بفقدان الهولوكوست معناها الإنساني الحقيقي، ويحولها من ذكرى مؤلمة إلى أداة هيمنة سياسية واقتصادية.
هل الهولوكوست حدث تاريخي حقيقي
الغالبية العظمى من المؤرخين والمتخصصين في التاريخ الأوروبي يؤكدون أن الهولوكوست (المحرقة) كانت جريمة إبادة جماعية ارتكبها النظام النازي ضد اليهود وغيرهم (غجر، معاقين، شيوعيين).
ويُقدَّر عدد اليهود الذين قتلوا بين 5.5 إلى 6 ملايين، خلال الفترة من 1941 إلى 1945، بوسائل شملت: غرف الغاز، والمجاعات القسرية، والعمل القسري، والإعدامات الجماعية، والتهجير القسري.
أدلة موثقة على وقوع الهولوكوست
وثائق نازية رسمية (تمت مصادرتها بعد الحرب)، وشهادات آلاف الناجين، وصور وأفلام التُقطت بعد تحرير معسكرات الاعتقال، ومحاكمات نورمبرغ – محاكمات دولية حاكَمت قادة نازيين، واعتُبرت مصدرًا قانونيًا رئيسيًا.
أين يبدأ الجدل؟
الجدل لا يدور غالبًا حول وقوع الهولوكوست نفسه، بل حول الرقم الحقيقي للضحايا، فبعض المؤرخين يشككون في الرقم “6 ملايين”، معتبرين أنه تضخيم سياسي، لكنهم لا ينكرون وقوع القتل الجماعي، وهناك من يشكك في استخدام غرف الغاز كوسيلة رئيسية، مطالبين بأدلة مادية أقوى، ومع ذلك، هذه الرواية مثبتة في شهادات نازية ومنظمات حليفة.
ماذا عن “المنكرين”؟
هناك أقلية تُسمّى “المنكرين” (Holocaust Deniers)، تدّعي أن الهولوكوست إما لم تحدث، أو أنها فُبركت جزئيًا أو كليًا لأسباب سياسية.
فقيل عنهم، أن معظم هؤلاء لا يُعتبرون مؤرخين محترفين، وكثير منهم ارتبطوا بتيارات يمينية متطرفة أو معاداة للسامية، هذا على حد وصف المؤيدين للرأى الذى يؤكد حدوثها.
العديد من الدول (مثل ألمانيا وفرنسا) تعتبر إنكار الهولوكوست جريمة جنائية، وهو ما يثير الجدل بين أنصار حرية التعبير.
أما فريق “الكتاب والمؤرخين” الذى يقع مابين المنكرين والمؤيدين لحدوث المحرقة اليهودية فقالوا: بين الإعتراف والإنكار للهولوكوست “فإن وقوع المحرقة لا يعني القبول باستغلالها، كما أن رفض الابتزاز الإسرائيلي لا يبرر إنكارها.
