الولاية الثانية للرئيس تبون .. هل تنجح في تصفير مشاكل الجزائر؟
يتوجه الناخب الجزائري إلى صناديق الاقتراع، في الانتخابات الرئاسية القادمة المعلن عنها، في السابع من سبتمبر أيلول القادم، وتحكم هذه الانتخابات حالة مختلفة التقدير النسبي، ولكنه نسبي مهم منذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون الرئاسة، خلفاً للرئيس الراحل عبد العزيز بو تفليقة، والذي أُثير في ختام فترته جدلٌ كبير، بعد تبين أن الرئيس لم يكن في وضع صحي يسمح له بالقيام بمسؤولية رئاسة الجمهورية، منذ سنوات خلت، وهو ما أكد أن هناك دولة مركزية تدير شؤون الحكم منذ ذالك التاريخ.
مركز امد للدراسات السياسية اعاد في دراسة له طرح السؤال الكبير في مستقبل الجزائر، وهو ما هو دائرة الممكن للإصلاح والتأثير لهذا البلد المهم، عربياً وأفريقياً وإسلامياً، وهو أيضا أيقونة مهمة يتم التعامل معها دولياً، إذ أن السياقات الواقعية على الأرض، رغم مشروعية الطموح الوطني للشعب الجزائري، في تحقيق نقلة حقوقية إصلاحية مهمة نحو مشاركة شعبية، وإصلاح حقوقي سياسي واسع، لم يعد لها مساحة آمال كبيرة.
وبالتالي فإن الحراك الجزائري المهم، الذي ضغط لإنهاء مرحلة الرئيس الراحل بو تفليقة، والحكم من خلف الستارانسحب بعدها أمام المواجهة الأمنية والسياسية، وأضحى الجميع اليوم، يُفكّر جدياً في واقع مآلات بلدان الربيع العربي، التي لا تزال تسدد فواتير الثورات المضادة، وأخطاء الثورات حتى هذه اللحظة، ومن هنا يُقرأ المستقبل الآخر للجزائر في دورة الترشح الجديد للرئيس تبون.
ووفقا لدراسة المركز فإن من أهم دلالات هذا البعد الآخر، كون الرئيس تبون على علاقة تماس قديمة مع الدولة المركزية، والتي مرت هي ذاتها بعدة دورات، منذ الاستقلال، وكانت الإشكالية تدور، حول صناعة نهضة واستقلال، يجمع بين الهوية الفكرية المختلفة عن جذور الاستعمار الفرنكفوني للجزائر، وبناء هيكل سياسي قوي يَسلم من الفساد، ويعالج الإرث الضخم المتداخل مع الذات الفرنسية، التي ظلت ثقافتها حاضرة في بعض أطياف الشعب.
غير أن هذا الحضور لم يكن يلزم منه مواجهة صفرية بالضرورة، خاصة في المفارقة بين الإسلامي والعلماني، لو كانت القاعدة المشتركة، تجمع هذه الأطياف تحت سيادة الاستقلال، وصناعة الهوية العربية الإسلامية، والتي تندمج مع مناطق القبائل في الروح الفكرية الجامعة، لاستقلال إنسان الجزائر، وليس في الدمج القومي، الذي ساد أوان الاستقلال وتأثر بالمفهوم الناصري.
غير أن هذه القاعدة للتفاهم الوطني، لم يتم البناء عليها، لدولة تحقق المشاركة الشعبية، وحين توجه الرئيس الشاذلي بن جديد لخطوة شُجاعة للتغيير عبر القرار الشعبي الحر، كانت موازين النفوذ مختلة تماما، لصالح هذه الدولة المركزية، وعلاقة بعض أطرافها بالعمق الدولي.
فانهارت التجربة عبر عنف دموي رسمي، ساعده حينها هشاشة التجربة الإسلامية، واختراق الجزائر، من قوى الغلو الديني التي كانت تُدعم أيضاً من أطراف خارجية، باسم العقيدة الصحيحة، وتطبيق الشريعة، بناء على مفهوم هذه الجماعات.
وحين أُسقطت نتائج الانتخابات، لم يكن للقوى الإسلامية المعتدلة قدرة موازية، وهي التي يمثلها طيف واسع من ارث جمعية العلماء الى أفكار مالك بن نبي، إلى قيادات جبهة التحرير الوطني، ذات النزعة الإسلامية، إلى شخصيات فكرية علمانية وطنية وإسلامية مستقلة، كانت تؤمن بإمكانية صناعة ديمقراطية مختلفة لصالح الجزائر،
غير أن هذه القوى لم تستطع أن تكون البديل الحواري للخروج من كارثة العشرية السوداء، لأن القوى المسيطرة، كانت تُفضّل بروز التطرف الديني، كمقابل للحكم العسكري الذي عزل الشاذلي بن جديد وتولي قيادات محسوبة علي المؤسسة العسكرية لم تستطع إخراج البلاد من ازماتها السياسية والاقتصادية ..
هذه الذاكرة المؤلمة لا يمكن عزلها، عن الوجدان الجزائري ولا عن القراءة الإستراتيجية المستقبلية لوطنه، ولذلك فإن المشهد العربي والأفريقي والتدافع الدولي بين الغرب الأوربي والغرب الروسي، وعلاقة الجزائر مع هذا الغرب وخاصة منظومة باريس، التي لا تمثل حكومة الدولة الفرنسية فقط، ولكن روح ونفوذ الفرنكوفونية العميق، في الشمال الافريقي، هي جميعاً عناصر مؤثرة متداخلة.
ولذلك حضر السؤال ما الذي يمكن فعله لصالح الجزائر الدولة والشعب، في مثل هذا الظرف؟
يبرز هنا بحسب الدراسة ركنان رئيسيان وهما الاستقرار السياسي والاجتماعي للوطن الجزائري، والركن الثاني هو تحقيق مُعَادِلَ إصلاح يتنفس فيه الشعب الجزائري مساحةً أكبر لمشاركته الشعبية، ولنصيبه من الثروة الوطنية، وخاصة أن الجزائر بنكٌ ضخم لعقول الإبداع العلمي، التي تتوزع على خارطة أوروبا وامريكا الشمالية اليوم، دون أن يستفيد منها وطنهم القومي.
من المهم الإشارة إلي أن هناك مؤشرا عاما لارتياح شعبي نسبي، للمرحلة الأولى للرئيس تبون، ورغم وجود مرَشَحَيْن آخرين في قائمة الاقتراع، غير أنه من غير الراجح، أن يتفوق أياً منهما على المرشح الأقوى في علاقته بالدولة المركزية في الجزائر، وحتى على مستوى الوعي الشعبي العام، القلق أيضاً من أي دائرة فوضى قد تسقط فيها الجزائر، ولذلك اعتمدت هذه الورقة، على فوز الرئيس تبون، بناءً على معطيات واضحة، نسبة الشك فيها، متدنية جداً، بغض النظر عن حقوق المرشَحَين الآخرين من حيث تكافؤ الفرص، مع الرئيس تبون.
وعليه فإن مرحلة الرئيس تبون القادمة، وإن كان قد دخل الى زمن عمري كبير، يقترب فيها من منتصف الثمانينات، قد تفتح مساحات أفضل لمصالح الدولة والشعب، وخاصة أنهُ هوَ الوحيد، القادر على إحداث تغيير في معادلة الدولة المركزية القديمة، والعبور من أطرافها إلى مركزية دستورية، تتقدم لديها مصالح الشعب، وهذا الحديث سهل أن يكتب في التحليلات السياسية، لكن من الصعب جداً تحقيقه على الأرض، دون إرادة قوية، واستخدام توازنات القوة والمصالح بين الأطراف، وإدخال منظومة إصلاحية في قلب جهاز الدولة الجزائرية.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فإن الجزائر حُمّلت الكثير من الملفات المرهقة، والتي لا مصالح لها فيها، حتى لو كانت بطاقات نفوذ تستخدم في الصراع الإقليمي، فالقوة الناعمة لحضور الدولة الإقليمية المؤثرة، لا يلزم منه الغرق في الصراعات العسكرية، أو السياسية الصعبة.
وبالتالي فإن بقاء الجزائر كطرف إقليمي مؤثر، لا يتعارض مع حل مشكلة الصحراء الغربية، والوصول إلى اتفاق سلام، والخروج من الصراع الشرس، غير المبرر مع المملكة المغربية، وإن كان هذا الصراع له جذور عميقة، منذ تاريخ مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري.
فإذا كانت سياسة تصفير المشاكل، وهو تعبير مجازي لتحقيق أي دولة مساحة خطوط وتواصل، مع كل الدول ذات العلاقة معها، وخاصة الحدودية، هو هدف استراتيجي لأي دولة، فلماذا لا يكون ذلك من صالح الجزائر أيضاً؟
فعبور الرئيس تبون لمرحلة رئاسية ثانية، قد يساعد في اختراق هذا الجدار السميك، من التوتر غير المبرر، بين دولتين شقيقتين عربيتين، تمثلان عمق الشمال الأفريقي وجسوره الخاصة إسلاميا مع أفريقيا السمراء، ومع الغرب الأوروبي في المحيط الأطلسي، ويُحسب للجزائر موقفها الرافض لتمدد النفوذ الإسرائيلي، وعدم المشاركة حتى اليوم، في مشروع التطبيع الذي لا يزال هدفاً مركزياً، لواشنطن وللمشروع الصهيوني الكبير.
غير أن دائرة الخلاف لم تكن مرتبطة بالتباين بين الرباط والجزائر، على ملف التطبيع، وإنما ظلت الصحراء الغربية مركزاً له، وكادت مباردة المصالحة للعاهل السعودي الملك فهد أن تنجح في عام 1989م، لكن عادت التوترات ذات العلاقة بالمصالح الدولية، وبعض الأطراف الداخلية لتهدم جهود المبادرة، وهذا السياق يشمل أيضا موقف الجزائر من دول التمرد الأفريقي الثلاثي الجديدة، فموقع الجزائر الطبيعي هو أن تكون وسيطاً، بين هذه الدول وبين المجتمع الدولي، وبين هذه الدول والإتحاد الافريقي نفسه، وليس الانخراط في منظومة الصراع المعقدة.فهل تفتح العهدة الثانية للرئيس تبون مستقبل البعد الآخر للجزائر؟