انتخابات جنوب إفريقيا: ما تداعيات خسارة الحزب الحاكم علي دعمه للقضية الفلسطينية؟
أثار فقد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم اغلبيته في جنوب إفريقيا تساؤلات عن أسباب فقد الحزب الذي أساسه الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا تساؤلات حول علاقة الدعوي التي اقامتها البلاد امام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بالتورط في جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة ومدي إمكانية تأثر دعم جنوب افريقيا للقضية الفلسطينية بنتائج الانتخابات .
وبحسب دراسة لمركزأمد للدراسات السياسية اعدته الباحثة دينا رجائي خاضت جنوب إفريقيا في الأربعاء 29 مايو انتخابات برلمانية فارقة في تاريخ البلاد، حيث أعلنت اللجنة الانتخابية المستقلة اليوم الأحد 2 يونيو النتائج الرسمية،
وأفادت بحصول حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” على 159 مقعداً فقط من أصل 400، وتعتبر هذه الانتخابات الأهم على مدار 30 عاما الماضية، حيث أنها المرة الأولى التي لا يحصل فيها الحزب الحاكم على الأغلبية المطلقة منذ 30 عاما، وبالتالي سيؤثر ذلك على احتمالية فوزه بالانتخابات الرئاسية، ونحاول في هذه الورقة تقدير موقف نتائج الانتخابات البرلمانية في جنوب إفريقيا وتداعيتها على موقفها الداعم للقضية الفلسطينية.
تراجع شعبية حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” الحاكم
ووفقا للدراسة يعد نظام الحكم في جنوب إفريقيا نظام برلماني، يسيطر فيه حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” على الحكم منذ نهاية حكم الفصل العنصري في 1994 وهو الحزب الذي أسسه المناضل نيلسون مانديلا منذ ذلك الحين، إلا أن هذه الدورة الانتخابية تعتبر مفترق جديد في تاريخ جنوب إفريقيا السياسي منذ 1994، حيث أعلنت اللجنة الانتخابية المستقلة النتائج الرسمية وأفادت بحصول الحزب على 159 مقعداً فقط من أصل 400، مما يعطي دلالة على تراجع شعبية الحزب الحاكم وفقدانه أغلبية المقاعد البرلمانية،:
ويمكن إرجاع ذلك لعدة أسباب ذلك إلي عوامل عدة منها ظهور أحزاب جديدة: حيث تنافس في هذه الانتخابات 52 حزبا سياسيا وبعض المرشحين المستقلين الذين شاركوا للمرة الأولى، مما أزاد احتمالية تفتيت الأصوات، وهو الأمر الذي أثر على أغلبية مقاعد الحزب الحاكم.
السخط الشعبي يبدو حاضرا بقوة في نتائج هذه الانتخابات في ظل الأزمات الاقتصادية الداخلية، وأزمة الوقود، وارتفاع نسب البطالة التي وصلت إلى 32 % العام الماضي، والفساد المستشري، فضلاً عن بقاء الفجوات الاقتصادية الواسعة بين المواطنين.
وكذلك يعد ارتفاع معدل الجريمة من أسباب تراجع شعبية الحزب الحاكم حيث تناولت صحيفة واشنطن بوست، في تقرير لها منذ أيام، أنه سُجلت 40 عملية اغتيال سياسية في جنوب أفريقيا منذ بداية العام الماضي.
وكذلك برطت الدراسة بين موقف الحزب الداعم للقضية الفلسطينيةوبين نتائج الانتخابات الأخيرة كون تاريخ جنوب إفريقيا معروف بنضاله الطويل ضد سياسة الأبرتهايد “حكم الفصل العنصري” فكان ليس غريبا أن تدعم البلاد القضية الفلسطينية، بل وتعتبر الاحتلال الإسرائيلي هو أخطر من الفصل العنصري نفسه، خاصة وأن هذا الدعم ليس وليد الأحداث الأخيرة على قطاع غزة فقط،
وقد سبق وأن قلصت جنوب إفريقيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل في عام 2018، ولكن وصلت ذروة موقفها العدائي من إسرائيل حينما قادت القضية دوليا إلى محكمة العدل الدولية متهمة إسرائيل بجرائم الإبادة الجماعية بعد 7 أكتوبر 2023، وهو الأمر الذي دفع جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل داخل جنوب إفريقيا إلى محاولة تأليب الرأي العام.
“اللوبيات” المؤيدة لإسرائيل داخل جنوب إفريقيا
وقد حاولت إسرائيل منذ عقود الاندماج داخل القارة الإفريقية، وزرع جماعات ضغط موالية لها كواحدة من سياساتها داخل القارة، ومن ضمنها جنوب إفريقيا، وبالتالي يوجد عدد من جماعات الضغط الصهيونية داخل البلاد تمارس سياسات محددة في التعامل مع الوضع السياسي والتأثير قدر الإمكان على الرأي العام والبرلمانيين لتوجيه توازن القوى لصالحها
وشهدت فترة الثلاثة أشهر الأولى بعد 7 أكتوبر 2023 نشاطًا ملموسًا للمجتمع المدني والحكومة في جنوب إفريقيا بشأن قضايا العلاقات الدولية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية الإسرائيلية والقضية التي رفعتها الحكومة على إسرائيل في محكمة العدل الدولية، حيث خضعت من خلالها الحكومة لضغط كبير من جماعات الضغط الصهيونية
ولكن ما عادل الضغط هي أيضا المنظمات وجماعات الضغط المؤيدة لفلسطين داخل جنوب إفريقيا، ويمكن القول أن هذا ما دفع الحكومة للضغط على المجتمع الدولي والمُضي في المسار القانوني الذي كشف لاحقا حقيقة المجتمع الدولي وسراب قيمه عن العدالة والحرية..
وفي هذا السياق يعد التحالف الديمقراطي هو الحزب المعارض الرئيسي في البلاد، وتدعمه الأقلية البيضاء، ونخبة رجال الأعمال، ويعتمد في الدورات السابقة على تحالفاته مع الأحزاب الصغيرة، ويتخذ موقفاً داعماً لإسرائيل، حيث معروف بعلاقاته مع المنظمات الصهيونية وكان يعارض كثير من سياسات الحزب الحاكم تجاه القضية الفلسطينية، ولاشك أنه سيتعاون مع هذه المنظمات للضغط على الرأي العام ضد الحزب الحاكم، خاصة أن لهذه الجماعات والمؤيدين لإسرائيل من داخل جنوب إفريقيا تاريخا من افتعال الصدمات الدبلوماسية والإعلامية مع قيادة جنوب إفريقيا
، وأظهرت النتائج غير الرسمية حصوله ما بين ربع وثلث الناخبين إلى حد كبير؛ وهي النسبة التي يحصل عليها في كل مرة.
وقبيل الانتخابات، بعث حزب “التحالف الديمقراطي” المعارض برسالة إلى وزير الخارجية الأميركي (أنتوني بلينكن) أكّد فيها نيته «تعزيز دعوته المجتمع الدولي إلى المساعدة في ضمان نزاهة الانتخابات المقبلة»، وطلب الحزب من الولايات المتحدة «حماية (جنوب أفريقيا) من كل محاولة تعطيل للعملية الديمقراطية»
. وتأتي هذه الرسالة في اكثر توقيت تتحطم فيه قيم الولايات المتحدة عن النزاهة والعدالة إزاء موقفها الداعم لإسرائيل في أحداث غزة وتمويل جرائم الإبادة الجماعية، وربما يقودها ذلك إلى تكون معزولة عالميا ولو بعد سنوات.
وقالت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا “ناليدي باندور” عبر هيئة الإذاعة الجنوب أفريقية: «وجدتُ هذه الرسالة مدهشة»، مؤكدة أن هذه الرسالة «مهينة بحق جنوب أفريقيا»، وفق وكالة الصحافة الفرنسية، كان رئيس البلاد (سيريل رامافوزا) قد رأى أن الرسالة «منافقة»، مؤكداً أن هناك مراقبين من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة يأتون عادة إلى جنوب أفريقيا خلال الانتخابات[7].
وربما كانت لهذه الرسالة من حزب المعارضة تأثيرا عكسيا على الناخبين الذين عانوا بالفعل لعقود من عنصرية الغرب في فترة حكم الفصل العنصري، وضيعت على الحزب المعارض فرصة انخفاض شعبية الحزب الحاكم ومحاولة كسب بعض مقاعده.
في الذكرى الثلاثين لنهاية الفصل العنصري، كيف سيتعامل حزب المؤتمر الوطني الافريقي مع خسارة الانتخابات؟
ومن المهم الإشارة في هذا السياق أه يوجد في جنوب إفريقيا عدد من الأحزاب السياسية، ولكن يمكن القول أن المنافسين الكبار هم:
و حزب المؤتمر الوطني الإفريقي هو الحزب الحاكم- مؤسسه المناضل نيلسون مانديلا – منذ انتهاء نظام الفصل العنصري في 1994، ويتبنى الحزب سياسة الاستمرار في حصد الأغلبية المطلقة دون الحاجة إلى الدخول في تحالفات مع أحزاب أخرى، لكن النتائج الأخيرة غير الرسمية من مرحلة فرز الأصوات تشير إلى أن الحزب ربما يلجأ للمرة الأولى في تاريخه إلى الدخول في تحالفات مع أحزاب أخرى صغيرة لتشكيل الحكومة بعد فقدانه الأغلبية المطلقة.

ومن الأحزاب المعارضة كذلك التحالف الديمقراطي حيث تأسس الحزب عام 2000، وهو يُعد حزب المعارضة الرسمي في البرلمان منذ عام 2004، ويحتل المركز الثاني خلف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وتدعمه الأقلية البيضاء، ونخبة رجال الأعمال، ويعتمد في الدورات السابقة على تحالفاته مع الأحزاب الصغيرة، ويتبني برنامجه سياسات الحكم الرشيد ومكافحة الفساد، ويميل في سياسته الخارجية إلى الولايات المتحدة وأوربا.
المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية تالث هذه الأحزاب هو حزب إذ تأسس الحزب عام 2013، ويعتبر في المركز الثالث خلف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والتحالف الديمقراطي في الانتخابات السابقة، وهو حزب صغير بأيديولوجية يسارية أقرب إلى الفكر الشيوعي، ويدعو إلى تأميم المناجم والبنوك وكذلك مصادرة الأراضي لإعادة توزيعها، ويميل في سياسته الخارجية إلى روسيا والصين.
وكذلك شهدت الحزب ميلاد حزب جديد وهو حزب رمح الأمة حيث أسسه جاكوب زوما رئيس جنوب إفريقيا السابق في ديسمبر 2023 بعدما أنشق عن الحزب الحاكم، ويعتبر هذا الحزب هو المفاجأة في هذه الانتخابات؛ لأنه بانشقاق المؤسس وتكوينه لحزب جديد سمح لاشتعال فتيل التشتت بعد هيمنة الحزب الحاكم لعقود، وبالفعل استطاع أن يحصد في هذه الانتخابات 15% من الأصوات وهي نسبة كبيرة لكونه حزب جديد وأول انتخابات يخوضها، فيعتبر ذلك مؤشر على استعداد الناخبين للبحث عن مسارات أخرى تعبر عنهم ومختلفة عن الحزب الحاكم.
وحاولت الدراسة كذلك بعد استعراض أبرز القوى الحزبية المنافسة في الانتخابات تحديد ثلاث سيناريوهات متوقعة يمكن أن ينتهجها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي أيا منها بعد فقدانه أغلبية المقاعد في الانتخابات،
السيناريو الأول يتمثل في إمكانية تحالف الحزب لحاكم مع التحالف الديمقراطي خاصة وأن النهج الاقتصادي لرئيس البلاد قريب من أجندة التحالف الديمقراطي، إلا أن الأخير يمثل حقبة “الأبارتهايد” والمعروف بتحالفاته الغربية، وبالتبعية سيكون ذلك له آثاره على السياسة الخارجية من التقارب مع الدول الغربية والضغط على موقف حزب المؤتمر الوطني الداعم من القضية الفلسطينية، وذلك قد يثير القاعدة الشعبية لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي.
ولكن على المستوى الداخلي من المتوقع أن يمهد ذلك التحالف إلى بدء عمليات الإصلاح ورفع البلاد من حالة الضغط الاقتصادي ولكن يحتاج إلى كثير من التنازلات من حزب المؤتمر الوطني والتغلب على على الخلافات بين الطرفين.
أما السيناريو الثاني فيتمثل في في إمكانية إبرام تحالف ولأول مرة مع حزب “مناضلون من أجل الحرية الاقتصادية”، وهو ما تصف المعارضة هذا التحالف بــ” سيناريو يوم القيامة” إذا تم، ولكن سيحفظ هذا التحالف استمرار حزب المؤتمر الوطني في السلطة حتى ولو مال إلى بعض التوجهات اليسارية، ولذلك متوقع أن يتم تطبيق بعض السياسات الاقتصادية اليسارية من تدخل الدولة في القطاع الخاص وسيتم التقارب أكثر مع روسيا والصين.
ويبقي هذا التحالف الأقرب توقعا خاصة وأنه موقفه واضح من الدعم للقضية الفلسطينية ونضاله ضد العنصرية، حتى إنه أعلن دعمه للعملية التي نفذتها حركة حماس في غلاف قطاع غزة في 7 أكتوبر الماضي[8].
ثالث السيناريوهات بحسب دراسة مركز أمد يسير في إطار ميل المؤتمر الوطني إلى عمل حكومة إئتلافية من خلال ربط الأحزاب الصغيرة أو النواب المستقلين بحزب المؤتمر الوطني الإفريقي عبر منحهم مناصب، وهو الأمر الذي يعده محللون سيزيد من ضعف الحزب وسيمنعه من تجديد نفسه مؤسسيا وسيفقد شعبيته حتى وإن تأخرت، لأن عليه النظر إالى التعددية الحزبية بعين الاعتبار، والمُضي نحو المشاركة مع الأحزاب في تفعيل سياسات إصلاحية ضرورية للبلاد.
تداعيات نتائج الانتخابات على دعم للقضية الفلسطينية
الدراسة ركزت كذلك علي السؤال الأهم والمتمثل تداعيات تراجع شعبية تحالفات حزب المؤتمر الوطني علي سياسته الخارجية،وفي القلب منها دعمه للقضية الفلسطينية حيث انقسم المراقبون إلي فريقين :
الأول يرجح تأثُر الحزب بالتحالفات، خاصة مع إذا كان مع التحالف الديمقراطي، وأنه سيشكل ضغطا على موقفه تجاه فلسطين، فـ”التحالف الديمقراطي” يريد استعادة علاقات جنوب إفريقيا بالمعسكر الغربي، كما أنه يتأثر بجهود جماعات الضغط الصهيونية في جنوب إفريقيا، لأجل سحب قوانين في البرلمان، لملاحقة مرتزقة جيش الاحتلال الإسرائيلي الذين يسافرون من جنوب أفريقيا للخدمة في صفوفه، وكان لم يؤيد شكوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية،
وقد يتمكن هذا الحزب من التأثير على حزب المؤتمر الوطني في البرلمان المقبل، وتقليل الضغط على إسرائيل دوليا، وربما سحب أو تخفيف الشكوى المقدمة في المحكمة الجنائية الدولية.
الفريق الثاني من المراقبين يعتقد بإمكانية الا يتأثر الحزب بهذه التحالفات وأن يعتمد على تقوية علاقاته الاقتصادية مع الغرب في إطارها الاقتصادي فقط دون التأثير على الشأن السياسي خاصة أن السياسة الخارجية لحزب المؤتمر تعكس موقف متعدد الانحيازات، وأن الرهان على الضغط على شعبية الحزب ستؤدي إلى تراجع الدولة عن شكواها أمام محكمة العدل الدولية هو رهان خاسر إذ أن الضغط داخل جنوب إفريقيا ليس مرتبط بحزب واحد فقط، وإنما هو توجه عدد من الأحزاب، بالإضافة إلى أنه تيار شعبوي أيضا يصعب تجاوزه.
وخلصت الدراسة في النهاية للقول إن انتخابات جنوب إفريقيا ستمثل إعادة تقييم ليس فقط في كيفية تعامل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي مع التحديات الداخلية ومدى إبداء مرونة في تشكيل تحالفات داخلية جديدة بعد 30 عام من الهيمنة، وإنما أيضا في السياسات الخارجية، التي ستعيد تموضع توجهات جنوب إفريقيا العالمية ومكانتها في المجتمع الدولي