“انتظري قليلا”.. قصة: د. ياسر عبد التواب
امتدت يدها الصغيرة الحانية تربت على عروستها
مسحت شعرها وهمست تحدثها : سوف نركض سويا
وسوف نعود لبيتنا..
هل أعد لكِ طعاما ؟
انتظري قليلا..
**
هل أعد لكِ طعاما ؟
انتظري قليلا
قلتها لها …وانطلقت إلى السوق
**
مذ بدأت الهجرة خارج المدينة وأنا أفكر
ما الذي يجعلني متشبثا بالبقاء ؟
وأسائل نفسي نفس السؤال الذي يراودني كلما اشتدت الأحوال
هل الوطن هو الأرض أم الناس ؟
هل بلدي هي المساحة التي أقطن عليها أم أهلي وجيراني ؟
**
كانت تسليتي الوحيدة منذ وجدتها هائمة..وكانت تسليتها عروستها الصغيرة
يوم التقيتها كانت تمسك بها
كأنها تتشبث ببقايا حياة عاشتها في كنف أبيها
ومن ساعتها وهي لا تفارقها ..تبيت معها في فراشها..
تغطيها حين تنام وتوقظها حين تصبح
وتجلسها معنا حين نأكل ..
سبحانك يا الله تختبر بالبلاء وتفرج الكرب حينما تشتد الأمور
لا أدعي بطولة ولا مروأة
فقط وجدت واجبا علي أن أرعاها
لعل الله تعالى ألقاني في طريقها عوضا عن أهلها
**
حين أدخل إلى المسجد وأصحبها معي تكون فرصة لي للتفكّر
راحتي النفسية في أكانفه تصفي تفكيري وتمنحني زادا يعينني على الشدائد
راحت تلعب مع طفل مثلها وأنا أراقبهما وأبتسم
وأعود أسأل نفسي ذات السؤال..
ما الذي يجعلني متشبثا بالبقاء ؟
هل الوطن هو الأرض أم الناس ؟
**
صغيرة هي
لطيفة هي
ترى فيمَ تفكر ؟
هل أنا أخدمها أم أظلمها ؟
ما الذي يجعلني مستمسكا ببقائها وكأني أتوارى خلف ضعفي بها
كأني أعتبرها بقية وطني
أستمسك بها كما تتشبث هي بعروستها
هل من الواجب علي أن أبحث لها عن أسرة تعيش في كنفهم ؟
الكل له بلاؤه والمصائب حين تشتد ينادي كل إنسان نفسي نفسي !
**
انتهت كل علاقتي بالدراسة..فقط بقيت كتبي
الجامعة مهجورة والطلاب بين معتقل وجريح وهارب
والأساتذة هاجروا أو قُـتلوا
فقط الكتب بقيت معي ألوكها أحيانا لأشعر أني لا زلت طالبا
ولا أدري هل تبخر حلمي بالتفوق بعدما قاربت الانتهاء من دراستي
أم لا يزال هناك أمل ؟
**
سألت نفسي مرارا وإلى أي مدى سأحتفظ بها..؟
ابتسمت في مرارة ..وهل أضمن أن نعيش سويا لغد ؟.
إن من يفترض أنهم رجالنا وأنهم يحموننا هم من يوجه الرصاص إلى صدورنا
هم من يقصفنا ويمطرنا بقنابل محرمة
..وبعض جيراننا يشارك..رأيت زميل دراسة معهم وطاشت رصاصته عني
صار الأمر وكأنه مأدبة طعام يؤمها اللئام كل ينهش منها
ليتهم وجههوها لأعدائنا
**
أمي كانت تعيش معي بعد موت والدي وسفر إخوتي
كانت حياتي.. ومرفأها كنت
لم تتحمل رؤية الدم ينساب من عضدي المقطوع
قناص أصاب يسراي فقطعت..
كنت أغطي بها رأسي فحمتها من الرصاص
بيد تلفها الأربطة والأحزان وقفت أتلقى عزاءها
**
ما الوطن حقا ؟!
إن كان الأهل هم الذين يظلمونك ويخطفون حقك في الحياة
ومن أجل سلطة زائلة يرغمك الحاكم على قبوله مدى الحياة
ويستعدي عليك أعداءك ..ويتواطأ معهم علينا
ومع ذلك يتهمنا بالإرهاب !
من أنت ؟ وما الذي جعلك رئيسا علي رغما عني ؟
وما الذي يجعل زمرتك تزمر لك وتنغض رؤوسهم لي ؟
**
اسمها حياة..
وأبوها رؤوف ..وأمها هادية
وأضحك في مرارة ..من أين لك بهذا يا فتاة ؟
تستغرب وتسأل : ماذا تقصد ؟
وأربت على كتفيها وأداعب شعرها
وأسألها : هل أعد لك طعاما ؟
انتظري قليلا
**
لما ارتفع الأذان داعيا انتفضت
كيف نسيت هذا ؟
كيف غفلت عن هذا العمق ؟
ووقفت أصلي وأنا أستغفر الله وأسأله الهداية
**
تريدين البقاء أكثر ؟
لا نستطيع حتى لا يدركنا الليل
**
صرت لها أبا وأما على غير رحم بيننا
كانت هادئة وادعة لا تتذكر شيئا عن ماضيها
كأنها تريد أن تنسى..
تناديني يا أبي ..دون أن أطلب منها
مشاعر الأبوة تتفجر من جنباتي كلما شعرت بضعفها وحاجتها
الصدمات تجبرنا على إلقاء ذكرياتنا إلى غياهب النسيان
**
الحق هو وطني
عقيدتي هي وطني
حين تستحيل الأرض إلى براكين
أو يتحول السكن إلى أطلال
وحين يهجر الناس المدن
لا يتبقى لنا إلا هذا
كلا أخطأت ..!
أين هو الحق من كل ذلك ؟
الحق هو الأساس..وليس مجرد وطن
والعقيدة هي الأصل
قد يجور الأهل ..وقد يطغى الحاكم وقد يعتدي المحتل
قد تتغير جغرافية المكان
وتسقط الحدود
وقد تفنى الحياة من مكان..فيرحل الإنسان
ولا يبقى له إلا الحق
لا يبقى معه في النهاية إلا أنه آدمي له قلب ومشاعر
ولن تنمو المشاعر ولن يستقيم القلب إلا بعقيدة صحيحة تقربه من ربه
وتشعره بأنه آدمي له قيم يتكئ عليها
وتقيل معه حيث قال وترحل معه أينما ارتحل
وطني هو عقيدتي ..أرحل لها وأعيش بها
هذا هو الحق الذي لا مرية فيه..وهكذا استراح ضميري
**
أذهب إلى السوق وهي معي..نزهتنا اليومية تقريبا
بقايا الحديقة العامة على أول الطريق اتخذوها مركزا لهم
وبعيني شاهدتهم يتسلون بقنص المارة
يا للهول
وحده السوق ومعه المنزل والمسجد متنفسنا الوحيد
**
الليل هو الميدان
ليس للسكون بل هو للقتل
حين تختبئ الأفاعي نهارا لتسعى ليلا
هنا يجب عليك أن تتعلم الاختفاء..أو الصيد
**
لكن لم نتركها لهم ؟
وأين سنذهب ؟
ومن سيلقانا هناك..
بل وأي هناك يختلف عن هنا ؟
من يعطيك الأمان يسلبك الحرية ..
ومن يمنحك المال يمنعك العقيدة
لا مفر إذن ..
**
تسألني أسئلة كثيرة ..تعريني بها
من هم ؟
لم يفعلون ذلك ؟
ما هذه الأصوات ؟
تلك أصوات القصف يا فتاة ..بمثلها ماتت أسرتك وبقيتي لي
نعم جيراننا ..لكنهم أعداءنا..!
هه ؟
أشرح لها أحيانا وأعجز أخرى
وما أثار عجبي أني رأيتها تسأل لعبتها عما لم أجبها عنه
وتشرح لها ما فهمته مني
**
هل صارت هي لعبتي تملأ حياتي كمثل حال لعبتها بالنسبة لها ؟
**
المقاومة
نعم كيف غفلت عن هذا المعنى أيضا ؟
يا لضعف الإنسان
أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي
**
أغيب عنها لساعات أطول
وجدت نفسي مع هؤلاء الرجال
وجدت الحياة بحق والفداء..
فرسان وعباد
يتعبدون ويناضلون
هكذا رأيتهم وتعلمت منهم
ألسنتهم تلهج بالذكر وقلوبهم عامرة بالإيمان ونفوسهم فداء العقيدة والحق والوطن..
وتعلمت معاني أعمق لفداء الحق وللعيش به
**
صرت أشاغلها حتى تنام ثم أغادر إليهم
وأعود غالبا قبل استيقاظها..وربما أجدها تجلس للعبتها تهدهدها وتداعبها
فأتمدد بجوارهما وأحدثها قليلا قبل أن أغفو
**
تقول لعروستها : هل أعد لك طعاما؟
انتظري قليلا
نفس ما أقوله لها ..صارت مفردات حواري لها هي عالمها
**
افتقدنا الطفل الذي يلعب معها
مرارا ذهبنا للمسجد فلا نجده
سألتني عنه فلم أحر جوابا
وقلت لها لعله سافر مع أهله
قالت : وأنا أريد أن أسافر معهم
وعدت لنفس لائما : هل أنا أظلمها أم أخدمها ؟
**
تطور القصف وصار عشوائيا
وبدأنا نحن نخلي بيوت الناس ونحفر لهم خنادق
هيأت لنا خندقا صغيرا ورحت أنقل له بعض ما بالبيت من أثاث
وحدي أفعل فالكل منشغل بشأنه في تلك العجلة
سألتني ماذا تفعل ؟
قلت : سننتقل من هنا
قالت : هل سنسافر؟
سكت..
تركتها لأكمل استعدادي
**
بيدي السليمة والأخرى أزيح التراب في جنون
يا فتاة انتظري قليلا..!
أبكي
بين الأنقاض وجدتها مسجاة وبجوارها لعبتها
بها رمق لكنها ممددة وتنزف
وبيدها الصغيرة الحانية تمسح الدماء التي غطت وجه اللعبة
تنزف هي وتظن أن لعبتها تنزف
وتهمس لها وهي ترتعد …
تقول لها لا تموتي يا عروستي..تهمس ولسانها يثقل
وقلبي يعتصر..انتظري قليلا
حملتها هلعا وأنا أحاول سد النزيف لأهرع لإنقاذها
يدها تشير إلى لعبتها فحملتها معها وركضت بهما وهي في حجرها
امتدت يدها الصغيرة الحانية تربت على عروستها تزيل الدماء عن وجه لعبتها
تمسح شعرها وتهمس تحدثها : سوف نركض سويا
وسوف نعود لبيتنا..
هل أعد لكِ طعاما ؟
انتظري قليلا..
أنت تموتين يا عروستي ؟
لا تموتي !
انتظري قليلا
انتظري قليلا
**