بادية شكاط في ذكرى استقلال الجزائر.. مازالت الجزائر تدفع ثمن الحرية
لقد اشتد وهج الثورة الجزائرية بامتداد شعاعها في أقاصي الشرق والغرب، وبكفاح شعب أحيا أرضه بموته، فعرج إلى السماء وهو يأبى الانكسار والانحناء، فلم يتحسر لقوافل الشهداء، بل كان يزفها لصفحات التاريخ، لتقلبها كلما أرادت الغطرسة الفرنسية أن تقلب تلك الأمجاد إلى رماد،ثم تذره في عيون كل من قال «وجب للجزائر الاعتذار»، وتطمس الحقيقة الساطعة بأنها أرادت أن تصنع من الجزائر أمريكا جديدة، بشهادة ضباطها وعلى رأسهم الضابط الفرنسي برتران كلوزيل الذي قال: «يلزم أن نصنع أمريكا جديدة هنا بالجزائر، بإبادة سكانها الأصليين، كالهنود الحمر في العالم الجديد حتى يسود الجنس الأوروبي عدديًّا ويصبح الاستعمار استيطانًا دائمًا».
أي أنهم استخدموا سياسة الإبادة لكل ما هو جزائري،تمامًا كما فعلت أمريكا مع الهنود الحمر، فتلك أقصر طريق لإفناء شعب على أرضه، وقد صرح بذلك الماريسشال سانت أرنو حين قائلا: «إن مراعاة القواعد الإنسانية تجعل الحرب في إفريقيا تمتد إلى ما لا نهاية»
فوضعوا تلك السياسة الوحشية في سياقات فلسفية، كالأفكار النيتشوية الفارغة التي جعلت من التفوق العنصري مبررًا كي يرث الإنسان الأعلى ذاك الإنسان الأدنى، وفق منظومة من قيم الاستعلاء والعنصرية والتي تشد أركانها بلوثة من مشاعر الحقد والبغضاء، والعنف وكل سلوكيات العنف والاعتداء، فكان تأطيرها في قوالب فلسفية كفيل لدى إجرام فرنسا لتقويض كل أشكال العدالة والوحدة البشرية.
فسياسة الإبادة الجماعية التي مارستها بكل غطرسة وعجرفة ضد الشعب الجزائري كانت لا تتغذى إلا على كل تلك القيم العنصرية الإستعلائية المقيتة، بما تحمل من مشاعر الحقد والعداء، والتي ما لبثت أن تحولت الى إبادات فردية،حينما أطلقوا على الشعب الجزائري تسمية «الراكون» وهو حيوان يتسلل إلى خم الدجاج ويقوم بافتراسها في لحظات الغفلة، ولأنه وجب حسب قناعاتهم البليدة إبادة حيوان الراكون المفسد فكذلك وجب إبادة الجزائري أينما وجد،لأن الجزائري الجيد حسب الكولون هو الجزائري الميت.
ومن صور تلك الجرائم الوحشية الفرنسية في حق الشعب الجزائري الأعزل ما نسرد بعضه على سبيل الذكر لا الحصر :
يقول الضابط الفرنسي ديريسون: «جرائم فرنسا في الجزائر جرائم يذوب لوحشيتها الصخر،وكثيرا ما حكمنا بالإعدام.. ونفذنا ذلك رميا بالرصاص»
وكذلك ما كتبه الضابط ليون عن الأعمال الوحشية بمنطقة شرشال حيث قال: «لقد هدمت كثيرا من الدواوير وأزيلت من الوجود قرى بكاملها بعد إشعال النيران فيها وقطعت عدة آلاف من أشجار التين والزيتون وغيرها»
وتلك الإبادة قد شملت الرجال كما النساء، فقبيلة العوفية مثلا قد أبادها الجنرال ورفقائه بكاملها وكان عدد أفرادها 12000 جزائري، ليقيم بعدها معرضًا بباب عزون، حيث عرضت حلي النساء وهي مثبتة على سواعدهن المقطوعة وآذانهم المبتورة.
وإذا ما نحن اتجهنا صوب منطقة جبال الظهرة فإننا نجد عملية وحشية أخرى يندى لها جبين الإنسانية التي يتشدقون بها، حيث تم قتل قبيلة أولاد رياح بأكملها في الكهف المسمى بـ«غار الفراشيش» وكان عددهم يتجاوز الألف شخص بينهم نساء وأطفال وشيوخ، حين حاصرهم السفاح بيليسيه وجنوده بالغار من جميع الجهات،وأعطى الأوامر لجنوده بتكديس الحطب وإشعاله أمام مدخل المغارة ليختنق الجميع ويموتون.
وتتكرر هذه الوحشية على يد العقيد بأن في مدينة الاغواط، حيث يعترف هو نفسه قائلا: «لقد كانت مذبحة شنيعة حقا، كانت المساكن والخيام التي في ساحة المدينة والشوارع والأزقة، والميادين تغص بالجثث، حيث قتل من النساء والأطفال ما يزيد عن ألفي قتيل».
فلقد جعل الإستدمار الفرنسي غاية وجوده في الجزائر، هو إبادة الإنسان الجزائري وطمس ما يحمله من هوية إسلامية، يقول السياسي والمناضل ورئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة «فرحات عباس» في كتابه ليل الاستعمار: «إن الاستعمار الفرنسي جعل نصب أعينه هدفًا واحدًا وهو تأهيل الجزائر وتعميرها بسكان أوروبيين يحلون محل الجزائريين، ولكن مساعيه في هذا الميدان أخفقت كل الإخفاق، نعم فإن إصرار الشعب الجزائري العنيد على البقاء فوق أرض الآباء والأجداد أحبط كل مساعي الاستعمار الرامية إلى تعمير بلادنا بجيش عرمرم من الأوروبيين».
غير أن فرنسا لم تحقق لها في الجزائر غاية ولم ترفع لها راية، يقول الماريشال والسفاح بيجو: «الجزائريون كلهم أهل حرب وبأس،وكلهم فرسان مغاور، يتقنون أينما إتقان امتطاء صهوات الخيل، ولكل واحد منهم فرس وبندقية، وكلهم يخوضون غمار الحرب من الشيخ الهرم البالغ من العمر 80 سنة إلى الطفل البالغ 15 سنة»
فبقي الشعب الجزائري راسخ الأقدام في تربة الكفاح بإقدام،حيث كانت راية «الله أكبر» هي الأكبر من كل مستبد متجبر، أراد استبدال الهلال بالصليب، والمساجد بالكنائس، واللغة العربية بالفرنسية، وكم أحسن المفكر الكبير سيد قطب وصف حالة الشعب الجزائري في مواجهته للصليبية الفرنسية في مقاله: «كفاح الجزائر» حيث قال رحمه الله: «لم يَعرِف بلدٌ آخر في الشرق أو في الغرب ما عَرَفتْه الجزائر من أساليبِ الصليبية، حتى الأندلس وحتى فلسطين لم تَعرِفا هذه الأساليب، لقد امتدَّت هذه الأساليبُ إلى تفكيكِ التماسكِ العنصري والعائلي، وامتدَّت إلى تحطيمِ الأخلاق، وإزالةِ الصبغة العربية الدينية، وتمَّ هذا في غفلةٍ من العالم الإسلامي والأمةِ العربيةِ في القرن الماضي، وكانت الجزائر وحدَها في المَيْدَان، فلم يَكُن بجوارِها أحدٌ كما هو الآن»
إلى أن قال في خلاصةِ نظرتِه الشخصية لكفاح الجزائر دون غيره: «لهذا كلِّه تخلص لي من كفاحِ الجزائرِ دلالةٌ لا تخلصُ لي من كفاحِ أيِّ بلدٍ آخر، دلالةٌ مطمئنةٌ تدعو للثقة، وإلى التفاؤل.. إن هذا العالَم الإسلامي لن يَموتَ.. إن المِحنَة التي عاناها في الجزائر لن يُعانِي مثلَها اليوم؛ لأن الاستعمار لا يملك مثلها اليوم وبعد اليوم؛ ولأن الأساليبَ التي جرَّبها في الجزائر لا يَعرِف العالَم لها نظيرًا».
وما حصل من أحداث قبل أيام في فرنسا من قتل الشاب الجزائري نائل من طرف الشرطة الفرنسية لهو دليل أن هذه العنهجية والعنصرية مازالت لها جذورها العميقة في العقيدة الفرنسية كعقدة أبدية، ولن نجادل في هذا المقام صواب ما فعله الجزائريون أم خطأه، حين أحرقوا فرنسا التي أحرقت قلب أم جزائرية، فتلك بينة على كل من مشى بأنوار بصيرته في سبيل نيل الاستقلال والحرية، إنما الأمر أنه تأكد لدينا أن سيد قطب رحمه الله حين تكلم عن كفاح الشعب الجزائري قد تكلم أيضا عن إشكالات جوهرية حول تصور الدولة القطرية، حين قال أن العالم مقسم بين دارين: (دار الإسلام ودار الحرب، فدار الإسلام تهيمن عليها حاكمية الإسلام بمنهاجه، وتنتهي حدودها عندما لا يكون هناك حكم إسلامي، ومن ثمَّ تبدأ من بعدها دار الحرب التي يوصِّف قطب العلاقة معها بعلاقة «قتال» أو «عهد أمان» لا يوجب قتال، بيد أنه أكَّد على أنه لا ولاء بين أهلها وبين المسلمين).
وهذا ما تبينه الأحداث الأخيرة إذ يقتل الجزائري في بلده الجزائر وخارجها فقط لأنه مازال تهديدا صارخًا لفرنسا بما يحمله من قيم دينية إسلامية تنافس قيمه الصليبية العنصرية والوحشية.
فمتى تعرف فرنسا أن قتل جزائري واحد هو قتل لكل الأمة الجزائرية؟
وبأن الدم الجزائري قد رسم سبيل الحرية وسطر أعظم ملحمة تاريخية، وهو أثمن من أن يهان بطلقة شرطي جبان، يخاف أنفاس الجزائري وروحه الثورية؟
يقول المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا: «إن التَّاريخ يجمع بين الجزائريين والفرنسيين،لكن الذَّاكرة تفرقهم»
تحيا الجزائر والمجد والخلود لشهدائها الأبرار.