أعلنت الولايات المتحدة حرمان كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية بمن فيهم الرئيس محمود عباس من الحصول على تأشيرات لدخول البلاد وإلغاء التأشيرات الحالية لمنعهم من حضور الاجتماع المقبل للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وقد أعربت الخارجية الفلسطينية عن استغرابها من هذا القرار.
تاريخ عباس ومهادنته
وللرئيس الفلسطيني محمود عباس تاريخ طويل من العمل ضمن الأجندة الأأمريكية، ومهادنة الكيان الصهيوني، طمعا في أن يؤسس دولته المنكوبة التي وعدته بها أروقة السياسة الأمريكية، رغم الحسم الإسرائيلي في رفض هذه الدولة حتى وإن كانت تابعة لتل أبيب.
حاول عباس تعطيل المسار الديمقراطي حينما فازت حماس في انتخابات العام 2006، فرفض الاعتراف بفوزها ووضع العراقيل الأمنية في طريق حكومتها إلى أن اندلعت أحداث العام 2007 والتي انتهت بسيطرة حماس على غزة وهزيمة أجهزة عباس الأمنية.
ولم ييأس عباس من ملاحقة المقاومة، فأعلن عن قطاع غزة إقليماً متمرداً وقطع رواتب آلاف الموظفين الذي ظلوا يخدمون المواطنين، وحرض الاحتلال بشكل سافر على العدوان على غزة، وهو ما حدث فعلا في 2009 و2012 و2014.
كما مارس دكتاتوريته المعهودة داخل فتح، وهذه المرة عبر اختلافه مع صديق الأمس محمد دحلان، فتبادل الاثنان كشف فضائح بعضهما، حتى وصل بهم لاتهام كل الآخر بالتورط مباشرة في اغتيال ياسر عرفات.
وخلال مسيرة عباس، كان يحرص على ترسيخ حكم الفرد الواحد، فقام بحل المجلس التشريعي، وألغى الانتخابات التي توافق الكل الفلسطيني على إجراؤها في العام 2020.
كما أطلق عباس بد أجهزته الأمنية لتعيث خراباً وفساداً وأذى، فاعتقلت الآلاف في سجونها، وقتلت المئات بعضهم تحت التعذيب، فقط لأنهم صدعوا بكلمة الحق في وجهه، وأبرزهم الناشط المعارض نزار بنات.
وجاء العدوان على قطاع غزة ليثبت بالدليل القاطع انسلاخ عباس عن هموم شعبه، والتصاقه بمصالح الاحتلال، ففي كل مرة كان يتحدث فيها كان يأتي على سيرة أسرى الاحتلال الذين هم بيد المقاومة، وكأن المجازر والإبادة ومعاناة الأسرى الفلسطينيين لا تعنيه باي شكل من الأشكال.
جزاء سنمار
ولسنوات طويلة كانت الشرعية الدولية تخذل الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورفاق أوسلو، إذ واصلت إسرائيل تحطيم مستقبل الدولة الفلسطينية عبر توسيع الاستيطان واستباحة مدن الضفة بالاعتداءات والاعتقالات.
واليوم يتعرض عباس لخذلان آخر من القانون الدولي، إذ رفضت الولايات منحه تأشيرة لحضور دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة المقررة في نيويورك في سبتمبر/أيلول.
تقول اتفاقية المقر إنه يجب منح التأشيرة لكل الوفود والشخصيات الراغبة في حضور اجتماعات الأمم المتحدة، ولو كانت تنتمي لدول تنخرط في حروب ضد الولايات المتحدة.
وقد ناشدت السلطة الفلسطينية السلطات الأميركية العدول عن قرارها وطلبت منها منح عباس ووفده الحق في الوصول إلى نيويورك.
ويبدو أن التأشرة الأميركية أصبحت حلما بعيد المنال، إذ ردت الخارجية الأميركية بالرفض المطلق وتعهدت بمحاسبة السلطة الفلسطينية.
فماذا تريد الولايات المتحدة من سلطة عباس؟
بالنسبة لمدير مركز القدس للدراسات السياسية عريب الرنتاوي، يمثل الموقف الأميركي إعلان حرب على الشعب الفلسطيني.
ويؤكد الرنتاوي أن “السلطة حاربت حماس وقاتلتها في الضفة الغربية ليل نهار، وقطعت شوطا كبيرا في الاتساق والتساوق مع الموقفين الأميركي والإسرائيلي في ملف إعانة أسر الشهداء”، حسب تعبيره.
وكانت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة أطلقت حملة أمنية في جنين بالضفة الغربية منتصف ديسمبر/كانون الأول 2024 بهدف “استعادة السيطرة الأمنية على المخيم”، ووصفت المقاومين بـالخارجين عن القانون واتهمتهم بتلقي دعم من إيران.
ووفق عباس الذي يكبر إسرائيل بـ13 عاما، فإن حماس ألحقت ضررا كبيرا بالقضية الفلسطينية، “ووفرت للاحتلال ذرائع مجانية لمؤامراته وجرائمه في الضفة وغزة”.
ومع ذلك لم ترض عن عباس إسرائيل ولا الولايات المتحدة، بل تريدان منه حاليا ثمنا يتجاوز التخلي عن الكفاح المسلح ومحاربة المقاومة، إلى التخلي عن الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي طالما زيّن الغربيون والأميركيون لرهط أوسلو التعويل عليها في تحقيق حلم الدولة والتوصل لاتفاق سلام تاريخي مع إسرائيل.
ويطالب الرنتاوي السلطة بالدعوة لكلمة سواء، ومواجهة الاحتلال بكل أطياف الشعب الفلسطيني، بدل مواصلة التنسيق الأمني مع إسرائيل.
مطالب واضحة
أما المسؤول السابق بالخارجية الأميركية توماس واريك فيذكّر في حديث للجزيرة بوجود تعاون أمني يجري خلف الكواليس بين السلطة وإسرائيل.
لكنه يرى أن هذا التنسيق لا يكفي، فالمطوب من عباس “التخلي عن الوسائل القانونية لتحدي إسرائيل، وعدم السعي للاعتراف بالدولة الفلسطينية”.
وبالفعل، فإن الخارجية الأميركية اتهمت الفلسطينيين بشن “حرب قانونية” عن طريق لجوئهم إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لمقاضاة إسرائيل.
ولم تتوقف عند هذا الحد بل استنكرت جهودهم للحصول على ما سمته “اعترافا أحاديا بدولة فلسطينية افتراضية”.
ومع ذلك يشدد واريك على عدم قانونية الإجراء الأميركي لأن اتفاقية المقر تنص على وجوب منح التأشيرات لكل الوفود الرسمية الأممية، حتى لو كانت تنتمي لحكومات معادية لواشنطن أو في حرب معها.
وسبق للولايات المتحدة أن اتخذت إجراء مماثلا عام 1988 ضد الرئيس الراحل ياسر عرفات، ما جعل الأمم تعقد اجتماعا في جنيف للاستماع إلى خطاب الزعيم الفلسطيني هناك.
ولا يشكل التحول لجنيف بديلا مقبولا حاليا لأن الفلسطينيين “مصرون على الوصول لنيويورك لإحراج واشنطن التي تريد من الفلسطيني البقاء تحت الاحتلال مدى الحياة”، وفق الباحث محمد المصري.
ويرى محمد المصري -الذي يرأس المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات برام الله– أن السياسة الأميركية جزء من العدوان على الشعب الفلسطيني. وتتماهى مع حرب الإبادة”.
وهذا هو ما يفسر الموقف الأميركي الجديد، إذ لا يوجد مبرر، فـ”أبو مازن معلّب ومنتج سلام ولا يؤمن باستخدام السلاح”.
قرابين رفضتها أميركا وإسرائيل
وكان عباس الحاصل على الدكتوراه في تاريخ الصهيونية، دان في أكثر من مناسبة عملية طوفان الأقصى التي شنتها كتائب عز الدين القسام ضد الاحتلال الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وفي رسالة بعثها للرئيس الفرنسي، قال عباس إن “ما فعلته حماس في أكتوبر/تشرين الأول 2023 من قتل وأسر مدنيين أمر غير مقبول”، داعيا الحركة إلى الإفراج الفوري عن الأسرى الإسرائيليين.
ووفق محمد المصري فإن “السلطة مستهدفة ويراد تهميشها وتحطيمها لأنها تمثل الشرعية الفلسطينية”، على المسرح الدولي.
وتنوي دول عدة في مقدمتها فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالتزامن مع استمرار إسرائيل في حرب الإبادة والتجويع ضد الفلسطينيين في قطاع غزة وسعيها لضم الضفة الغربية المحتلة.
وبينما يواصل عباس طرق الباب الأميركي ليؤذن له بالدخول، أقرت إسرائيل خططا لبناء مستوطنات جديدة، وأدلى قادتها بمن فيهم بنيامين نتنياهو برفضهم مبدأ حل الدولتين الذي مثل ركيزة أساسية في مواقف ساسة الغرب من صراع الشرق الأوسط.
ولم تكتف إسرائيل عند هذا الحد، إذ أفادت تقارير عزمها خلع السلطة الفلسطينية وتنصيب زعامات عشائرية موالية لها في الضفة.
ورغم عزم أميركا منع السلطة من مواصلة عزف سيمفونية الشرعية الدولة، يشدد المصري على أنه لا بديل عن مواصلة النضال في المحافل والمنظمات الدولية لعزل إسرائيل.