بين صفحات الكتب التاريخية، اعتدنا أن نقرأ عن الملوك والمعارك والتحولات الكبرى، لكن كتاباً جديداً يخرج عن هذا المألوف، ليضيء على زاوية مسكوت عنها في التاريخ: تاريخ التعب.
الكتاب ومؤلفه
العمل الذي بين أيدينا يحمل عنوان “تاريخ التعب.. من العصر الوسيط إلى أيامنا هذه” للمؤرخ الفرنسي جورج فيغاريلو، أحد أبرز من اشتغلوا على تاريخ الجسد والعادات الاجتماعية، وقد صدر بترجمة أنيقة أنجزها محمد نعيم عن منشورات صفحة سبعة.
فيغاريلو، المعروف بأعماله مثل تاريخ الجسد وتاريخ النظافة، يواصل في هذا الكتاب مشروعه البحثي الذي يحاول أن يفهم الإنسان لا من خلال السياسة والحروب، بل من خلال جسده، وما يعيشه يومياً من تعب وإرهاق.
فكرة الكتاب
يروي الكتاب سيرة التعب عبر العصور، منذ العصور الوسطى حتى عالمنا المعاصر.
لا يقدّم التعب كظاهرة جسدية فقط، بل كحالة اجتماعية وثقافية وسياسية. فالتعب هو مرآة كل عصر: في القرون الوسطى ارتبط بالخطيئة والكسل، وفي عصر النهضة صار علامة على الجد والاجتهاد، ومع الثورة الصناعية صار مرادفاً للعمل الميكانيكي الشاق، بينما في العصر الحديث أصبح التعب مركباً نفسياً وجسدياً معاً، تجسده أمراض مثل الإرهاق المزمن والاكتئاب والاحتراق الوظيفي.
أبرز محاور الكتاب
1- التعب في العصر الوسيط: ارتبط بالذنوب واعتبر عائقاً عن العبادة.
2- النهضة وبروز قيمة الجهد: التعب صار دليلاً على المثابرة والنجاح.
3- العصر الصناعي: دخلت الآلة لتفرض شكلاً جديداً من الإرهاق المتكرر والآلي.
4- القرن العشرون: اتسع التعب ليشمل الجانب النفسي، خاصة بعد الحروب العالمية.
5- الزمن الحاضر: التعب لم يعد حالة عابرة، بل مرضاً اجتماعياً يعكس سرعة الإيقاع الرأسمالي وضغوط الحياة اليومية.
مقولات لافتة من الكتاب
“التعب مرآة لعصره؛ ففي كل زمن يُقرأ التعب على أنه مرض، أو علامة إيمان، أو برهان على نجاح الفرد”.
“كلما تطورت المجتمعات، اتسع التعب: من الجسد وحده إلى النفس والعقل، حتى شمل الوجود كله”.
“الحداثة حولت التعب إلى مرض اجتماعي، لا يعود سببه إلى الجسد فقط، بل إلى نظام العمل والحياة”.
الإسلام والتعب: رؤية مغايرة
وإذا كانت الرؤية الغربية – كما يعرضها فيغاريلو – قد ربطت التعب بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية، فإن التراث العربي والإسلامي قدّم فهماً أعمق وأبعد مدى.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6]، أي أن التعب ليس مجرد مشقة، بل مسار وجودي ينتهي بلقاء الله.
النبي (صلى الله عليه وسلم) رفع من قيمة العمل المرهق قائلاً: “ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده” (البخاري).
الأدب العربي مجّد الكدّ، فجاء شعر المتنبي شاهداً على أن التعب طريق المجد: إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ / فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ.
الفرق هنا جوهري: الغرب يعالج التعب بوصفه انعكاساً لظروف الإنتاج ونمط الحياة، بينما جعل الإسلام من الكدح قيمة روحية وأخلاقية، تضفي على التعب معنى سامياً، وتحوله من عبء جسدي إلى طريق كرامة ورضا.
أهمية الكتاب
تاريخ التعب ليس مجرد بحث في التاريخ الاجتماعي، بل هو دعوة للتأمل في علاقتنا بالعمل والحياة. فهو يضع القارئ أمام سؤال أساسي: هل التعب قدر لا مفر منه، أم هو نظام مفروض يمكن تغييره؟ وهل الراحة ترف، أم حق أصيل للإنسان؟
هذا الكتاب يفتح نافذة جديدة على التاريخ، لا تحكي عن الملوك أو المعارك، بل عن الناس البسطاء، عن أجسادهم المنهكة وأرواحهم المتعبة. ومن خلال هذه القراءة ندرك أن التعب ليس مجرد حالة طارئة، بل حكاية إنسانية ممتدة، تتقاطع فيها السياسة والدين والثقافة والاقتصاد.