تحوُّل بلاد فارس (إيران اليوم) من المذهب السنّي إلى المذهب الشيعي الإثني عشري كان تحولًا تاريخيًا عميقًا ومعقدًا، تم بشكل قسري ودموي إلى حد بعيد في عهد الدولة الصفوية، خصوصًا في القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري).
قبل الصفويين: بلاد فارس السُّنية
لعدة قرون قبل مجيء الصفويين، كانت بلاد فارس سنيّة الهوى والعقيدة، تدين بمذاهب أهل السنة الأربعة، خاصة الشافعي والحنفي. نشأ فيها كبار علماء السنة: كـالفخر الرازي، والبيضاوي، والنسفي، وغيرهم. وكانت مراكز مثل نيسابور وأصفهان وهمذان منارة للفقه والحديث.
بزوغ الدولة الصفوية (1501م / 907هـ):
الصفويون في الأصل كانوا طريقة صوفية سنية تُنسب إلى الشيخ صفي الدين الأردبيلي (ت 735هـ). لكن خلفاءه بدأوا ينزاحون نحو التشيع، مدعومين بالتأثر بالأفكار الإسماعيلية والغلاة، إلى أن جاء الشاه إسماعيل الصفوي، المؤسس الفعلي للدولة الصفوية، فحوّلها إلى سلطة شيعية اثني عشرية رسمية، وأعلن نفسه إمامًا وسلطانًا دينيًا ودنيويًا.
الشاه إسماعيل الصفوي (حكمَ 1501–1524م): النار والدم
في عام 1501م، دخل الشاه إسماعيل تبريز وأعلن التشيع الاثني عشري مذهبًا رسميًا للدولة، وأمر بإجبار السكان على اعتناقه.
قام بحملات قمع دموية ضد علماء السنة، قتل وشرّد كثيرًا منهم، ودمّر المساجد والمدارس السنية.
الخطبة كانت تُلقى باسم الأئمة الاثني عشر، ولُعن الخلفاء الراشدون الثلاثة الأوائل على المنابر، مما أثار غضب العالم السنّي، خصوصًا الدولة العثمانية.
الأساليب التي اتبعتها الدولة الصفوية:
1- فرض المذهب الشيعي بالقوة: من لا يتشيع كان يُقتل أو يُسجن.
2- جلب علماء من جبل عامل (جنوب لبنان) مثل المحقق الكركي، لتعزيز التعليم الشيعي ونشر التشيع الفقهي والعقدي.
3- تحويل المؤسسات الدينية والتعليمية إلى منابر شيعية، ومنع تدريس كتب السنة.
4- إلغاء الرموز السنية من الحياة الدينية، وتشييد مشاهد الأئمة والطقوس الشيعية.
5- الدعاية السياسية والدينية التي تربط بين الدولة الصفوية والمهدوية والانتساب لآل البيت.
النتيجة التاريخية:
خلال قرن أو أقل، أصبحت إيران دولة شيعية بالكامل، بعدما كانت ذات أغلبية سنية.
كان ذلك أول تحول مذهبي جذري في التاريخ الإسلامي يتم بقوة الدولة.
نشأ منذ ذلك الحين العداء الطائفي الشرس بين الدولة الصفوية (الشيعية) والدولة العثمانية (السنية)، وتجلّى في حروب مريرة.
لقد كان التحول الصفوي من السنة إلى التشيع لا مجرد نزاع مذهبي، بل انقلاب حضاري وسياسي وديني، قلب وجه إيران، وترك أثرًا لا يزال يُرى حتى اليوم. كانت السيوف أبلغ من الخطب، والنار أسرع من الدعوة، في تشكيل هوية فارس الجديدة… من نور بغداد إلى لطم كربلاء.
بلاد فارس
لقد ظلَّت إيران تحت راية الإسلام السني قرابة تسعة قرون متتالية، منذ أن فتحها المسلمون في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومرورًا بالدولة الأموية فالعباسية. كانت إيران تتنفس من روح التوحيد، وتستظل بتعاليم أهل السنة والجماعة، حتى طلعت شمس الصفويين، تلك الأسرة التي غيَّرت مسار التاريخ الإيراني، وحوّلت البلاد قسرًا إلى التشيع.
أصحاب العمائم السوداء
العمائم السوداء هي جزء من الزّي الديني لعلماء الدين الشيعة، وخاصةً أولئك الذين يدّعون أنهم من نسل علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، ويُطلق عليهم لقب “سادة” أو “السادة”. العمامة السوداء تقليد يعود إلى أزياء المسلمين الأوائل، ويرى الشيعة أنها رمز لنسبهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
أصول إسماعيل الصفوي ومنطلق دولته
إسماعيل الصفوي هو مؤسس الدولة الصفوية، تلك الإمبراطورية التي غيرت مسار التاريخ الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط. يعود نسبه إلى الشيخ صفي الدين الأردبيلي، أحد شيوخ الصوفية في القرن السابع الهجري (13م)، والذي أسس طريقة صوفية اجتذبت أتباعًا كُثرًا في أذربيجان وشمال إيران.
بعد مقتل والده في نزاعات سياسية، نشأ إسماعيل في حماية أتباع الطريقة الصفوية، خصوصًا مقاتلي “القزلباش”، الذين أصبحوا نواة جيشه. ومع بلوغه الخامسة عشرة، قاد إسماعيل حركة عسكرية وسياسية كبيرة انتهت بإعلانه شاهًا على إيران عام 1502م (907هـ)، بعد أن دخل مدينة تبريز وجعلها عاصمته.
المقاومة والبطش في تبريز:
لم يكن القرار سهلاً على شعب إيران، الذي لم يعرف التشيع من قبل، إذ كانت معظم مناطقه سنية الهوى والعقيدة. وعندما أعرب قادة “القزلباش”، الحرس العسكري الموالي لإسماعيل، عن خشيتهم من رفض أهالي تبريز السنّة لهذا التحول، أشهر إسماعيل سيفه قائلاً: “إن اعترض أحد، فلن يبقى على قيد الحياة”. وصدق وعيده؛ ففي اليوم التالي، اقتحم الجامع الكبير بصحبة جنوده، وأمر رجل الدين الشيعي “مولانا أحمد الأردبيلي” بالخطبة، وعندما همَّ المصلون بالانسحاب احتجاجًا، قُطع الطريق عليهم. أُجبروا على إعلان البراءة من الخلفاء الراشدين الثلاثة، والموالاة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن رفض ذلك كان نصيبه الموت.
المذابح وتثبيت المذهب الشيعي:
بدأ إسماعيل الصفوي حملة دموية لنشر مذهبه. وتشير كتب التاريخ، مثل “أحسن التواريخ” لمحمد كاظم المروي، إلى أن المجازر شملت مناطق شاسعة من إيران. ففي مدينة “شكي” غرب إيران، ذُبِح الآلاف، وأُحرقت جثث شيوخ السنة. أما في “شيروان”، فبُنيت منارة من جماجم القتلى.
وفي عام 914هـ، اجتاح إسماعيل بلاد الأحواز، مُنهياً حكم المشعشعيين، ثم أتبعها بمجازر في شيراز ومازندران ويزد وأصفهان. وفي مرو عام 916هـ، بلغ بطشه ذروته بقتل أكثر من أحد عشر ألف شخص بعد معركته مع “شيباك خان التركماني”، الذي لم يكتفِ بقتله بل أمر جنوده بأكل لحمه أمام أهل المدينة.
قتل العلماء ومحو الإرث السني:
لم يقتصر عنف إسماعيل الصفوي على العامة، بل امتد إلى علماء السنة. كانت محاكم التفتيش تُنصب في كل مدينة يدخلها، يُطلب من العلماء قول: “أشهد أن عليًا ولي الله”. من نطق بها أُطلق سراحه، ومن رفض قُطعت رأسه أو أُلقي في النار.
ومن أبرز ضحاياه العلامة القاضي مير حسين مبيدي في شيراز، والعلامة الأمير غياث الدين الأصفهاني في أصفهان.
التوسع الصفوي في العراق
بعد تثبيت دعائم حكمه في إيران، وجه إسماعيل أنظاره نحو العراق، الذي كان تحت سيطرة دول ضعيفة.
العراق، بموقعه الاستراتيجي واحتوائه على مراقد الأئمة الشيعة، كان هدفًا جذابًا لإسماعيل.
في عام 1508م (914هـ)، قاد إسماعيل جيشًا كبيرًا واحتل بغداد، حيث ارتكب مجازر بحق أهل السنة. دمرت قواته العديد من المساجد السنية وأجبرت العلماء وأعيان المدينة على التشيع.
في الموصل وديالى، استمرت عمليات التصفية الطائفية، حيث ذُبح الآلاف ودُمرت المدارس والمساجد السنية.
في بغداد، أمر إسماعيل ببناء أضرحة ضخمة فوق قبور الأئمة الشيعة، بينما أطلق حملات لتشييع السكان بالقوة، ما أدى إلى تغيير البنية الديموغرافية للعراق.
المواجهة العثمانية:
لم يكن السلطان سليم الأول، حاكم الدولة العثمانية، غافلًا عن هذا المد الشيعي الذي اجتاح العراق .
رأى في إسماعيل الصفوي خطرًا يهدد أهل السنة والجماعة، فتجهز للحرب، ووقعت معركة “جالديران” الشهيرة عام 1514م (920هـ)، التي انتهت بهزيمة الصفويين، لكنها لم تقضِ على دولتهم ، استمر الصراع السني الشيعي بين الدولتين لعقود، ما أضعف الأمة الإسلامية في مواجهة القوى الأوروبية.
النتائج والتأثير على الأمة الإسلامية:
أدى قيام الدولة الصفوية إلى شرخ كبير في وحدة الأمة الإسلامية.
أصبحت إيران سدًّا بين العالم الإسلامي السني في الشرق والغرب، مما أضعف القوة الإسلامية أمام أوروبا.
وكما قال المستشرق الفرنسي “رينو”: “لولا الصفويون، لكنّا اليوم نقرأ القرآن في فرنسا وبلجيكا كما يقرؤه الجزائريون”.
———
المصادر :
الدولة الصفوية في إيران – روبرت كانيت.
إيران بين التسنن والتشيع – إحسان الهي ظهير.
أحسن التواريخ – محمد كاظم المروي.
الصراع السني الشيعي في التاريخ – ممدوح حقي.
تاريخ الدولة العثمانية- يلماز أوزتونا.
الدولة الصفوية: نشأتها وتطورها – عبد العزيز عبد الغني إبراهيم.
المؤامرة الصفوية الصهيونية لإخضاع العالم الإسلامي الثاني – محمد عبد المحسن
الإرهاب الطائفي بين الدولة الصفوية والجمهورية – عبد الرحمن السقاف
لله ثم للتاريخ – حسين الموسوي
الصفويون ودورهم الهدام في تاريخ الأمة – عمار المشهداني