“تاريخ بهجة الأعياد عند المسلمين”
ثمة علاقة وثيقة بين الأعياد والأديان عموما، وفي الإسلام خصوصا تأتي الأعياد في أعقاب أو ضمن مواسم شعائر جماعية واجتماعية بالغة الدلالة في سموّها الإنساني، لاسيما أن هذه الشعائر تحتلّ مكانة تمثيلها لركنيْن من أركان الإسلام الخمسة؛ هما: فريضة الصيام بوصفها أعظم بوابة لتغيير النفوس على المستوى الشخصي، وشعيرة الحج باعتبارها أوسع وسيلة للتغيير على المستوى الاجتماعي!!
واقتران الأعياد بهذين الركنين العظيمين يعني التأسيس لمقصد شرعي عظيم يقضي بإحداث تحوُّل كبير في القيم والأخلاقيات، لما تُشِيعه تلك الفرائض وهذه النُّسُك من شمائل خُلقية وفضائل إنسانية، فتسري في أيام الأعياد معاني الفرح والغبطة بهذا الانتشاء النفسي والروحي المفعَم بتلك المعاني والقيم.
وقد عزز تلك المقاصدَ الإرشادُ النبوي المؤكِّدُ لمعاني تميُّز السَّمْتِ العامّ للمجتمع الإسلامي عن غيره حتى في تقاليد الفرح والبهجة، والتذكير بأن الإسلام جاء -مثل الأديان الكبرى التي تعيش في محيطه- بأعياده الخاصة التي تمتزج فيها التقاليد المجتمعية بمفاهيم المناسك العبادية، ليتولد من ذلك مزيج بهيج يمكن تسميته “شعائر المرح”. لقد كان الإسلام -ولا يزال- يؤكد في علاقته ببقية الأديان حضور معنييْن عظيميْن: الانفصال الصارم عنها في النواحي الدينية والشعائرية، والتعايش التام معها في النواحي الاجتماعية والسياسية.
هكذا عرف المسلمون الأعياد فكانت عندهم مواسم للفرح والترفيه النبيل، في أجواء يحفُّها التلاقي والتآزر الاجتماعي، وكان رائد المسلمين في هذ السلوك البهيج هو النبي ﷺ الذي أرشد أمته إلى طرائق البهجة والسرور، وكان يحرص على أن يكون هو ومن حوله أشدَّ الناس فرحا بالأعياد، حتى لكأن المسلمين في أيام أعيادهم لا يشغلهم سوى المفاكهة والحياة السعيدة، والحقُّ أن مبعث ذلك هو التوازن بين الروح والمادة والمرح والجِدّ الذي أسسته له قيم الإسلام وقامت عليه دعائم العمران والاجتماع الإسلامي!!
ومن المعاني اللافتة في هدي النبي ﷺ المتصل بالأعياد أنه حرص على أن تكون مواسم رسمية يسعد بها المجتمع بإشراف من الدولة، وليست -كما يظنه البعض- مجرد مناسبات دينية تُترك للوعاظ على منابر مصليات الأعياد؛ فمرويات السُّنة تدل على أن النبي ﷺ كان له يوم العيد ما يشبه الموكب يخترق به طرقات المدينة المشرَّفة في ذهابه إلى صلاة العيد وإيابه منها، وكان يُمسك بحربة وهو يقود هذا الموكب المبارك.
وظل تقليد هذه المواكب الرسمية مستمرا في دول الخلافة الإسلامية وممالكها على مَرّ التاريخ، حيث كانت السلطات تحرص على أن تكون الأعياد مناسَبة لاستعراض القوة والفتوّة، وفرصا لإبراز المكتسبات السياسية والعمرانية التي أنجزتها أجهزة الدولة وقوى المجتمع. وقارئ هذه الدراسة لن يغيب عنه هذا الملمح اللافت الذي يربط العيد بمواكب الاستعراض العسكري، وجموع الفَرِحين المُكبِّرين التي لم تنقطع عن حواضر العالم الإسلامي طوال قرون.
وبالتمعن في تلك المواكب نُدرك الفرق بين الاستعراض العسكري الذي تغلب عليه أجواء البهجة والمرح وإبراز المهارات والفنون الفردية والجماعية، وبين حمل السلاح الخالي من تلك المعاني الهادفة والضار بالأفراد والمجتمع. ولذا بوَّبَ الإمام البخاريّ (ت 256هـ/870م) -في صحيحه- بقوله: «باب ما يُكره من حمل السلاح في العيد والحَرَم»؛ ذلك أن الأصل في الأعياد أنها أيام سِلم وأمان يفرح فيها الناس ويَأمنون على أنفسهم وممتلكاتهم كما يفعلون في رحاب بيت الله الحرام.
ورغم تلك المعاني والمقاصد الجامعة؛ فقد كانت لكل بقعة -في جغرافيا الحضارة الإسلامية- بصمتُها الخاصة بأعيادها بما يعكس طابعها الخاص، فنجد في بعض الحواضر ثقافة إقامة الولائم العظيمة كما في مأدبة العيد للخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) التي حفلت بحوالي 300 لون من أصناف الطعام، وفي مناطق أخرى مثل الهند نلاقي احتفالات العيد بتسيير مواكب الفيلة المزيَّنة بالحرير والذهب، وكانت بعض العادات تنتقل من حاضرة لأخرى كما تكشفه رواية الجاحظ (ت 255هـ/869م) عن رؤيته فيلا في بغداد احتفالا بالعيد!! وهذه المقالة جاءت لتحتفي بمواسم بهجة الأعياد كاشفة عنها ومعرِّفةً بها، وراصدةً لأبرز ملامح تقاليدها في تاريخ المسلمين في شتى أعصارهم وأمصارهم!
التاريخ الإسلامي – تراث
فرحة نبوية
منذ فجر الإسلام؛ كانت فرحة العيد تسبقُه قبل أن يحلّ فكانت ليلة تحرّي الهلال ليلة أُنْس وحُبور، وكان عيدُ النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه متواضعًا بسيطًا لكنّه أخذ من المَسرّات حظًّا وافرًا ليكون يوم الجمال التامّ في كل شيء بأمر من النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج الحاكم (ت 405هـ/1015م) -في ‘المستدرك‘- أن الحسن بن عليّ (ت 49هـ/670م) قال: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجودَ ما نَجِدُ، وأن نتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد”!
وكان النبي صلى الله عليه وسلم “يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم، فإذا رجع رجع من الطريق الأخرى”؛ كما روى الشافعيُّ (ت 204هـ/820م) في كتابه ‘الأمّ‘. وكان له يوم العيد ما يشبه الموكب؛ فقد أخرج البخاريّ (ت 256هـ/870م) -في صحيحه- أنه صلى الله عليه وسلم كان “إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها..، فمن ثـَمَّ اتخذها الأمراء”.
وقد ذكر غيرُ واحدٍ من المؤرخين هذه الحربة؛ فقال الواقديّ (ت 207هـ/823م) -فيما نقله عنه السمهودي (ت 911هـ/1505م) في ‘وفاء الوفا‘- إنها “كانت للزبير بن العوام (ت 36هـ/657م) -أعطاه إياها النجاشي (ت 9هـ/631م)- فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يخرج بها بين يديه يوم العيد”.
وكان حملُها بين يديْ النبيّ ثم خلفائه من بعده شرفًا يُحفظ فيتوارثه الخلفاء والملوك؛ فقد ذكر ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- أن سعدًا القرظي (ت 39هـ/660م) “كان مؤذن مسجد قبا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ولي عمر (ت 23هـ/645م) الخلافة ولاه أذان المسجد النبوي، وكان أصله مولى لعمار بن ياسر (ت 37هـ/658م)، وهو الذي كان يحمل العَنَزة (= الحربة) بين يدي أبي بكر (ت 13هـ/634م) وعمر وعليّ (ت 40هـ/661م) إلى المصلى يوم العيد، وبقي الأذانُ في ذريته مدة طويلة”.
وجاء في تكملة خبر الواقدي المتقدم استمرار وجود هذه الحربة لدى الأمراء خلال القرن الأول من دولة العباسيين؛ فقال: “وهي (= حربة النبي) اليوم بالمدينة عند المؤذنين، يعني يخرجون بها بين يديْ الأئمة (= الأمراء) في زمانه”؛ أي زمان الواقدي.
وكانت الفرحةُ بالعيد زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم عامّة، إذ روى صاحبا الصحيحين وغيرهما عن أم عطية الأنصارية (ت نحو 70هـ/690م) “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُخرج الأبكار والعواتق (= الفتيات) وذوات الخُدور والحُيَّض في العيدين، فأما الحُيَّض فيعتزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين”؛ (وهذا لفظُ الترمذيّ ت 279هـ/892م).
وكانت صلاةُ العيدين تسبق خطبتَهما حتى جاء الأمويون وصار الناس ينفضون عن خطبهم السياسية بعد انقضاء الصلاة، وأرادوا حملهم على البقاء لسماعها فكان “أولَ من بدأ بالخطبة يوم العيد -قبلَ الصلاة- مروان (بن الحكم ت 65هـ/685م)”؛ كما في ‘صحيح مسلم‘.
ولم يخلُ العيدُ في الزمن النبويّ من اللهو واللعب؛ إذ أخرج البخاريّ عن عائشة (ت 58هـ/678م) أنها قالت: “دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث (= آخر معركة بين الأوس والخزرج 617م)، قالت: وليستا بمغنيتين؛ فقال أبو بكر: أمزاميرُ الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك في يوم عيد؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا!»”.
وزاد البخاري في رواية أخرى: “قالت: وكان يوم عيد يلعب السودان بالدَّرَق (= التروس الجلدية) والحراب، فإمّا سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وإمّا قال: «تشتهين تنظرين؟»، فقالت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده”.
مراسم محدثة
لم يُنقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء في لفظ التهنئة بعيد الفطر أو عيد الأضحى، لكنّه نُقل عن الصحابة والتابعين؛ ولعلّ أشهره ما جاء في “باب الدعاء في العيدين” من كتاب ‘الدعاء‘ للطبراني (ت 360هـ/971م): “عن راشد بن سعد (المقرائي ت 113هـ/732م) أن [الصحابييْن] أبا أمامة الباهلي (ت 86هـ/705م) وواثلة بن الأسقع (ت 85هـ/704م).. لقياه في يوم عيد فقالا: «تقبل الله منا ومنك»”!
ومع تطور مراسم الدولة الإسلامية؛ صارت لصلاة العيد -وكان السلاطين هم أئمتها- وخطبته ترتيبات أكبرُ وأعظم، حتى روى القاضي التنوخي (ت 384هـ/995م) -في ‘نشوار المحاضرة‘- أنه “كان يقال: من محاسن الإسلام: يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطَرَسوس” التي تقع جنوبي تركيا اليوم، وكانت ثغرا عظيما لمواجهة الروم البيزنطيين على ثغور الشام حتى استولوا عليها سنة 354هـ/966م، فكان العيد -رغم أنه مناسبة فرح وسرور- فرصة لاستعراض القوة العسكرية للمجاهدين المرابطين فيها!!
وهذا المقريزيّ (ت 845هـ/1441م) يصفُ لنا -في ‘اتِّعاظ الحُنَفا‘- التجهيزاتِ لصلاة العيد زمن الخليفة الفاطميّ العزيز (ت 386هـ/997م)؛ فيقول: “وبُنِيَتْ مَصاطِب (= جمع مَصْطَبَة: مكان مرتفع قليلا) ما بين القصر والمصلى.. يكون عليها المؤذنون والفقهاء، حتى يصل التكبيرُ من المصلى إلى القصر..، وركب العزيز فصلى وخطب”.
وكانت الصلاة تُعقد في أماكن مفتوحة ومحددة وبعضها معيّن بأسماء غير بعيدة من أسماء الساحات العامة بمدننا اليوم؛ ففي ‘المسالك والممالك‘ للإصْطَخْري (ت 346هـ/957م) أن “مصلى رسول الله الذى كان يصلي فيه الأعياد [يقع] في غربي المدينة”، وفي بغداد يخبرنا التنوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘- أن “مصلى الأعياد في الجانب الشرقي من مدينة السلام”، وفي مصر يقول المقريزي -في ‘الخطط والآثار‘- أن “مصلى خولان.. [كان هو] مشهد الأعياد ويؤم الناس ويخطب لهم.. في يوم العيد خطيب جامع عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م)”، وفي دمشق كانوا يصلون بساحةٍ تُدعى ‘الميدان الأخضر‘، ذكرها ابن تَغْرِي بَرْدِي (ت 874هـ/1470م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- حين وصَف صلاة العيد فقال: “وأطلعوا المنبر إلى الميدان الأخضر”.
وربما تتعدد صلوات العيد في المدينة الواحدة بتعدد المذاهب الفقهية فيها، كما كان يحصل في مدينة سَقْسين ببلاد الخزر -وهي المنطقة الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود- التي يقول عنها القزويني (ت 632هـ/1235م) -في ‘آثار البلاد‘- إن “أهلها مسلمون، أكثرهم على مذهب الإمام أبي حنيفة (ت 150هـ/767م)، ومنهم من هو على مذهب الإمام الشافعي. وفيها جوامع لكل قوم جامع يصلون فيه، ويوم العيد تُخرَج منابر، لكل قوم منبر يخطبون عليه ويصلون مع إمامهم”.
ومن المواقف الطريفة المرتبطة بصلوات العيد ما وقع في إحداها بالمغرب الأقصى أيام السلطان أبي العباس الوطاسي (ت نحو 960هـ/1552م)؛ فقد ذكر الناصري السلاوي (ت 1315هـ/1898م) -في ‘الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى‘- أن “الناس خرجوا يوم العيد للصلاة فانتظروا السلطان فأبطأ عليهم ولم يأتِ إلى [حينِ] خروجِ وقت الصلاة، وحينئذ أقبل السلطان.. في أبّهته فلما انتهى إلى المصلى نظر الشيخ أبو مالك (= عبد الواحد بن أحمد الونشريسي ت 955هـ/1548م) فرأى أن الوقت قد فات، فرقِي المنبرَ وقال: معشر المسلمين أعظم الله أجركم في صلاة العيد فقد عادت ظهرا! ثم أمر المؤذنَ فأذّن وأقام الصلاة، فتقدم الشيخ أبو مالك وصلى [بـ]ـالناس الظهر، فخجل السلطان أبو العباس واعترف بخطيئته”!!
وكان من الاحتفالات القديمة -والمستمرة حتى الآن- كسوةُ الكعبة المشرَّفة في عيد الأضحى خاصّة؛ فقد قال الفاسي (ت 832هـ/1429م) -في ‘شفاء الغرام‘- إن “الكعبة تُكسى -في عصرنا هذا- يومَ النحر من كل سنة، إلا أن الكسوة في هذا اليوم تسدل عليها من أعلاها، ولا تُسْبل حتى تصل إلى منتهاها -على العادة- إلا بعد أيام من يوم النحر”. ويبدو أن تلك العادة كانت مختلفةً قليلًا عما عُهِد قبل ذلك بقرون؛ فقد قال الفاسي معقّبًا: “وذكر ابن جبير [في رحلته] ما يقتضي أن الكعبة لا تُكسى في يوم النحر، وإنما تُكسى في يوم النَّفَر الثاني (= ثالث أيام التشريق)”.
ويبدو استذكار الأحزان في العيد عريقا في تاريخنا؛ فعادة زيارة المقابر في الأعياد ضاربة الجذور رغم عدم وجود أصلٍ شرعيّ لها. ولعلّ ذلك أثار حفيظة السلطة في بعض الأزمنة، إذ رأت فيه تنغيصًا غير مرغوب فيه لفرحة العيد؛ فالمقريزي يحدثنا -في ‘الخطط والآثار‘- أنه في سنة 402هـ/1012م أصدر الفاطميون قرارا رسميا بـ”منع النساء من زيارة القبور فلم يُـرَ في الأعياد بالمقابر امرأةٌ واحدةٌ”. ثم تكرر الأمر أيام المماليك، حيث يقول المقريزي -في ‘السلوك‘- إنه في 29 رمضان 792هـ/1390م “نودي في القاهرة بمنع النساء من الخروج يوم العيد إلى التُّرَب (= المقابر)”!
تجمُّل بالغ
لعلّ أهمّ تجهيزات العيد هو عناية الناس بزينتهم ونظافة أبدانهم وتجديد ثيابهم بشراء لباس العيد، وهو أمرٌ نبويٌّ -كما سبق ذكره- اهتمّ الفقهاء بالتأكيد عليه حتى إنهم فضلوه على الغسل للجمعة مع أن صلاتها فرض والعيد سُنَّة؛ لأن “غسل العيد مأمور به لأخذ الزينة فاستوى فيه من حضر العيد ومن لم يحضر كاللباس، وغسل الجمعة مأمور به لقطع الرائحة -لئلا يؤذي بها من جاوره [بالمسجد]- فإذا لم يحضر زال معناه”؛ حسب الإمام الماوردي (ت 450هـ/1058م) في ‘الحاوي الكبير‘. وأيضا لأن الشرع “طَلَب.. [في العيد لبس] أعلى الثياب قيمةً وأحسنها منظرا، ولم يختص التزين فيه بمريد الحضور [لصلاة العيد]”! كما يقول الرملي الشافعي (ت 1004هـ/1596م) في ‘نهاية المحتاج‘.
وقد حرص أعيان الناس وعامتهم على التجمُّل في الأعياد حتى إن الرجال كانوا يتزينون بالصبغ بالحناء والسواد! ومن جميل ما وقع من ذلك ما ذكره ابن عذاري المراكشي (ت بعد 712هـ/1312م) -في ‘البيان المُغرب‘ ضمن قصة فتح مدينة ماردة الأندلسية 94هـ/713م- من أن قائد الفتح موسى بن نصير (ت 97هـ/716م) كان حينها قد شاب، فجاءه الروم مرّة فوجدوه أبيض الرأس واللحية، ثم جاؤوه وقد صبغه بالحناء، ثم جاؤوه ثالثة “وذلك يوم عيد الفطر؛ فألفوه قد سوَّد رأسه ولحيته؛ فرجعوا إلى المدينة وقالوا لمن فيها: ويحكم! إنما تقاتلون أنبياء يتشبَّبون (= يصيرون شبابا) بعد المشيب! قد عاد ملكهم حَدَثاً (= شابًّا) بعد أن كان شيخا!؛ فقالوا: اذهبوا إليه وأعطوه ما سألكم! فوصلوا إليه وصالحوه”؛ وقد كان موسى يتزين للعيد غير عالمٍ بما يدور في صدور أعدائه بسبب تلك المصادفة العجيبة!!
ويبدو أنه كان من عادة بعض المجتمعات في الغرب الإسلامي أن يخضب العريس من الرجال يديه بالحناء في العيد، كما جاء في نازلة فقهية سجلها العلامة مَيّارة الفاسي (ت 1072هـ/1662م) في ‘الإتقان والإحكام‘، وذكر فيها أن “الزوج فعل عادة أهله من تحنئة يديْه وجاء العيد فبعث للزوجة كبشا [هديةً]، وكان عازما على البناء والعرس فاخترمته (= اختطفته) المنية”!!
وكان للرجال –من المسلمين وغيرهم- زينتهم كلّ في عيده، ومن أطرف ما ذُكر من تفاصيل ملابس العيد للرجال ما نقله الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) -في ‘تاريخ بغداد‘- عن رجل يدعى أبا قابوس -وكان مسيحيًّا- روى قصة كسوته على يد جعفر بن يحيى البَرْمَكيّ (ت 187هـ803م)؛ فقال: “دخلت على جعفر.. في يوم بارد فأصابني البرد، فقال: يا غلام اطرح عليه كساء من أكسية النصارى فطرح عليّ كِساء خَزٍّ (= نوع من حرير) قيمته ألف! قال: فانصرفت إلى منزلي، فأردت أن ألبسه في يوم العيد فلم أصِبْ له في منزلي ثوبا يشاكله، فقالت لي بنيةٌ لي: اكتب إلى الذي وهبه لك حتى يرسل إليك بما يشاكله من الثياب…”؛ فكتب إليه قطعة شعريةً يستوهبه فيها أربعة أثواب إضافية سماها بأسمائها، ومنها قوله:
أبا الفضل لو أبصرتَنا يومَ عــيدِنا ** رأيتَ مبــــاهاةً لنا في الكنــائس
فلا بدّ لي من جُبّة من جِــــــبابكم ** ومن طيـلسانٍ من جياد الطيالس
إذا تمت الأثوابُ في العيد خمسةً ** كفتْكَ فلم تحتج إلى لبْسِ سـادس!
أما النساءُ فكُنّ يعتنين بصبغ ثياب العيد أيضًا، وكان يُعنى بذلك فضلاء الناس وعلماؤهم وكبراؤهم ولا يرون فيه حرجًا؛ فقد روى ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- عن حفصة بنت سيرين (ت 101هـ/720م) -وهي أخت الإمام الكبير محمد بن سيرين (ت 110هـ/729م)- أنها قالت: “كانت أم محمّد [بن سيرين] امرأة حجازية، وكان يعجبها الصبغ، وكان محمّد إذا اشترى لها ثوبا اشترى ألْيَنَ ما يجد..، فإذا كان كلّ يوم عيد صبغ لها ثيابها”؛ فكان هذا الإمام متكفّلًا بثياب أمه وصبغها لها في العيد!
ولما كان هذا هو حال القوم في التزيّن فلم يكن بُدٌّ من أن يظهر جمالُ النساء في العيد أكثر من غيره؛ فها هو الإمام ابن الجوزيّ (ت 597هـ/1175م) يروي لنا -في ‘المنتظم‘- قصة تحقيقٍ منزليّ ظريف خضع له الفقيه التابعي الزاهد حسان بن أبي سنان (ت 54هـ/674م)، فيقول إنه “خرج يوم العيد، فلما رجع قالت له امرأته: كم امرأةً حسنة قَدْ رأيتَ اليوم؟ فلما أكثرتْ قال: ويحكِ! ما نظرتُ إلا في إبهامي منذ خرجتُ من عندك حتى رجعتُ إليك”!! ويروي البلاذري (ت 279هـ/892م) -في ‘أنساب الأشراف‘- أنه “لما قدم الحَجّاجُ (الثقفي ت 95هـ/715م) البصرةَ حضر العيدُ (= عيد الفطر 75هـ/695م) فرأى كثرة من حضر من النساء، فقال: إن تُرِك أهلُ الشام وهؤلاء أفسدوهن، فابتنى قصره واتخذ فيه حائرا (= مكان محوّط) طويلا أكثر من مِيل، وأنزله أهل الشام لا يخالطهم عراقي”!!
وربما رافقت احتفالات العيد حوادث تحرّش بالنساء وإن ظل يُنظر إليها بوصفها مُنكرًا كبيرًا، ويدلُّنا على ذلك أن حربًا وقعت بسبب واقعة تحرّشٍ في العيد حدثت بقرطبة أيام دولة المرابطين؛ فالمؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) يذكر -في ‘الكامل‘- أنه في 514هـ وقعت “فتنة بين عسكر أمير المسلمين علي بن يوسف [بن تاشفين ت 537هـ/1143م] وبين أهل قرطبة”. وسببها أنه لما كان “يوم الأضحى خرج الناس متفرجين، فمدّ عبدٌ من عبيد أبي بكر (= قائد الجيش) يده إلى امرأة فأمسكها، فاستغاثت بالمسلمين فأغاثوها، فوقعـ[ـت] بين العبيد وأهل البلد فتنة عظيمة، ودامت جميع النهار والحرب بينهم قائمة على ساق”، في معركة متعددة الجولات انتهت بهزيمة مُذلّة للسلطة ورضوخها لمصالحة السكان؛ فهؤلاء أهل بلد ثاروا على أميرهم وعسكره، وقاتلوهم قتال المستميت لأجل واقعة تحرّشٍ واحدةٍ وقعت يوم عيد!!
مراكب ومواكب
كانت المواكب الرسمية من أهمّ مشاهد العيد التي كانت الدولة تحرصُ عليها، وتظهر من خلالها هيبتها وقوتها واعتداد حكامها بأبهة سلطانهم، وفي تفاصيلها العجبُ العجاب. فقد أورد ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- ضمن رصده لأخبار الخليفة العباسي المقتفي (ت 555هـ/1160م) أنه “خرج يوم العيد (= عيد الفطر 553هـ/1158م) الموكبُ بتجمُّل وزِيٍّ لم يُرَ مثله من الخيل والتجافيف (= ما تُلبَسُه الخيل ليقيها الجراح) والأعلام وكثرة الجند والأمراء”!
وكانت للعباسيين طقوسٌ في العيد سبق منها حملُ الحربة التي تُنسب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتشبهه أيضًا “البردة” المنسوبة إليه والتي “توارثـ[ـها] بنو العباس.. خلَفًا عن سلف، [فـ]ـكان الخليفة يلبسها يوم العيد على كتفيه، ويأخذ القضيب المنسوب إليه (= النبي) في إحدى يديه، فيخرج وعليه من السكينة والوقار ما يصدع به القلوب ويبهر به الأبصار، ويلبسون السواد [وهو شعارهم] في أيام الجمع والأعياد”.
وكان العيدُ أحيانا مناسبةً لتذكير الأمّة بمقام الخليفة باعتباره الملك المتعالي على رعيّته حتى كبار موظفيه وخاصته، فلم يكن من عادته أن يجلس أحد بجواره يوم العيد؛ فقد جاء عند الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن قاضي الفاطميين عبد العزيز بن محمد بن النعمان (ت 401هـ/1011م) “عَلَتْ رُتبته عند [خليفتهم] الحاكم (ت 411هـ/1021م) إلى أن أصعَده معه عَلَى المنبر في يوم العيد”.
ومن عجبٍ أن تجد عدم إجلاس أحدٍ إلى جوار الحاكم الأعلى أو سيره بمحاذاته في الموكب أمرًا ينافح عنه المؤرخون؛ يقول ابن تَغْرِي بَرْدِي: “وفيها (= 289هـ/902م) صلّى [الخليفة] المكتفي (ت 295هـ/907م) بالناس يوم عيد النحر، وكان بين يديه ألوية الملوك، وترجّل الملوك والأمراء بين يديه ما خلا وزيرُه القاسم بن عُبيد الله (ت 291هـ/904م) فإنه ركب وسايره دون الناس؛ ولم يُرَ قبل ذلك خليفةٌ يسايره وزير غيره”! ثم يضيف ابن تغري بردي معقّبًا: “وهذا أوّل وهنٍ وقع في حقّ الخلفاء! وأنا أقول: إنّ المعتضد (ت 289هـ/902م) هو آخر خليفة عقد ناموس (= صان هيبتها) الخلافة، ثم من بعده أخذ أمر الخلفاء في إدبار إلى يومنا هذا”!!
رغم أنّ الصحابة الكرام كرهوا حمل السلاح في العيد -إلا ما كان من شأن الحربة النبوية- حتى بوَّبَ الإمام البخاريّ -في صحيحه- بقوله: “باب ما يُكره من حمل السلاح في العيد والحَرَم”؛ فقد تأصّل -منذ حكم الأمويين- تقليدُ تنظيمِ الاستعراض العسكريّ. ثم لم يلبث خلفاؤهم أن جعلوا حمل السلاح من مظاهر العيد؛ فقد ذكر المؤرخ ابن الأثير أن الخليفة يزيد بن الوليد (ت 126هـ/744م) كان “أول من خرج بالسلاح يوم العيد، خرج بين صَفَّين عليهم السلاح”! ثم صارت هذه عادةً تواطأ عليها الخلفاء والملوك حتى من أعداء بني أمية كبني العباس والفاطميين.
فهذا إبراهيم بن محمد البيهقي الكاتب (ت نحو 320هـ/933م) يحدثنا -في ‘المحاسن والمساوئ‘- عن استعراض عسكري هائل نظمه الخليفة المعتصم (ت 227هـ/843م)؛ فيقول: “حضر العيدُ فعبَّى المعتصم بالله خيله تعبيةً لم يُسمع بمثلها ولم يُرَ لأحد من ولد العباس شبيهٌ بها، وأمر بالطريق فمُسح من باب قصره إلى المصلى، ثم قسم ذلك على القُوّاد وأعطى كلَّ واحد منهم مَصافَّه (= موقعه بالصف)، فلما كان قبل الفطر بيوم حضر القواد وأصحابهم في أجمل زي وأحسن هيئة فلزموا مصافَّهم منذ وقت الظهر إلى أن ركب المعتصم بالله إلى المصلى..، ولبس ثيابه وجلس على كرسي ينتظر مُضِي القواد، فلما انقضى أمرُهم تقدم إلى الرجالة في المسير بين يديه، فتقدم منهم سبعة آلاف ناشب (= رامٍ) من الموالي كل ثلاثمئة منهم في زي مخالف لزي الباقين”!!
ويذكر ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- عرْضا مشابها للسابق وقع 549هـ/1155م؛ فيقول إنه “خرج العسكر في عيد الفطر على زي لم يُرَ مثله لاجتماع العساكر وكثرة الأمراء”!! بل وصارت مواكب العسكر ذاتَ حرمةٍ بالغة، يُعاقب المتسبب في تخريبها بالموت! قال الذهبيّ في ‘تاريخ الإسلام‘ ضمن أحداث سنة 528هـ/1134م: “ثمّ إنّ الخليفة (= المسترشد بالله ت 529هـ/1135م) خَلَع على الأمراء (= كساهم كُسوة العيد)، وعرَض الجيشَ يوم العيد، ونادى: لا يختلط بالجيش أحد، ومن ركب بَغْلًا أو حمارًا أُبيح دَمُه”!!
عروض منوعة
من أمتع مشاهد تقاليد العيد في المجتمعات الإسلامية تلك التي رصدها بدقة الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ/1378م) في مختلف بقاع الإسلام وضمّنها رحلته الشهيرة. ومنها مشهد العيد في إحدى سلطنات بلاد الروم [تركيا اليوم]؛ حيث يقولك “وأظلنا عيد الفطر (733هـ/1333م) بهذه البلدة فخرجنا إلى المصلى، وخرج السلطان (يَنَنْج بك ت بعد 338هـ/1337م) في عساكره والفتيان الأخِية (= جماعات الفتوة) كلهم بالأسلحة، ولأهل كل صناعة الأعلام والبوقات والطبول والأنفار، وبعضهم يفاخر بعضا ويباهيه في حسن الهيئة وكمال الشِّكة (= السلاح)، ويخرج أهل كل صناعة معهم البقر والغنم وأحمال الخبز، فيذبحون البهائم بالمقابر ويتصدقون بها بالخبز، ويكون خروجهم أولا إلى المقابر ومنها إلى المصلى. ولما صلينا صلاة العيد دخلنا مع السلطان إلى منزله، وحضر الطعام فجُعل للفقهاء والمشايخ والفتيان سماطٌ على حدة، وجُعل للفقراء والمساكين سماط على حدة، ولا يُرَدُّ على بابه في ذلك اليوم فقير ولا غني”!
ومن أعجب ما رُؤي في مواكب الملوك إحضارُ الحيوانات البريّة والأسود وغيرها لاستعراضُها أمام الموكب؛ فالجاحظ (ت 255هـ/869م) يخبرنا -في ‘الحيوان‘- عن مشاهداته في أحد الأعياد قائلا: “خرجتُ يوم عيد فلما صرت بعيساباذ (= منطقة كانت ببغداد) إذا أنا بتَلٍّ مُجَلَّل بقُطوع ومقطّعات، وإذا رجال جلوس عليهم أسلحتهم، فسألت بعض من يشهد العيد فقلت: ما بال هذه المَسْلَحَة (= الحراس) في هذا المكان وقد أحاط الناس بذلك التل؟ فقال لي: هذا الفيل”!
وقد سجّل المقريزيّ -في ‘اتّعاظ الحنفا‘- مشاهد عيد سنة 395هـ/1004م فذكر أنه “ركب [الخليفة] الحاكمُ يوم عيد الفطر..، وقُيّدَ بين يديه ستةُ أفراس -بسروج مرصّعة بالجوهر- وستة فيَلة وخمسُ زرافات! فصلى بالناس صلاة العيد وخطبهم”! كما ذكر ابن بطوطة استخدام الفيلة في احتفالات المسلمين الهنود بأعيادهم؛ فقال إنه “إذا كانت ليلة العيد بعث السلطان إلى الملوك والخواص وأرباب الدولة والأعزة (= ضيوفه من الغرباء).. الخِلَع (= الثياب التي يُهديها السلطان) التي تعمُّهم جميعا، فإذا كانت صبيحة العيد زُينت الفيلة كلها بالحرير والذهب والجواهر، ويكون منها ستة عشر فيلا لا يركبها أحد إنما هي مختصة بركوب السلطان”!
ولئن كان أكثر الخلفاء والأمراء يبالغون في مظاهر البهرجة والتفاخر في الأعياد، فلم يُعدم من يرى الفخر الحقيقيّ بالإنجازات العملية لصالح الشعوب والأوطان؛ فقد ترجم سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان‘- للقائد البويهي أبي الطاهر المشطّب المُلقّب بالسعيد (ت 408هـ/1018م) فقال فيه: “وكان السعيد سعيدًا كما سُمِّي، كثيرَ الصدقات فائضَ المعروف كثيرَ الإحسان، حتى إنَّ أهل بغداد إذا رأوا مَنْ لبس قميصًا جديدًا قالوا: رحمَ اللهُ السعيدَ؛ لأنه كان يكسو اليتامى والمساكين والضعفاء، وهو الذي بنى قنطرة العراق وقنطرة الخندق -عند باب حرب- والياسرية والزياتين وغيرها..، وأخرج الإسْفَهْسِلَارِيَّةُ (= قادة العسكر) يومَ العيد الجنائبَ (= خيول تُعرَض غير مركوبة) بمراكب الذهب وأظهروا الزينة، فقال له بعض أصحابه: لو كان لنا شيءٌ أظهرناه! فقال له السعيد: إنه ليس في جنائبهم قنطرةُ الخندق والياسرية والزياتين”!!
وكان من زينة العيد عندهم أن يصنعوا الخيام والقباب، وكانت هذه القبابُ مقرّات للاحتفال ومكانا للأكل والشراب واللهو، ويُبذل في صناعتها وتزيينها ما يثيرُ العجب! ويصفُ لنا بتفصيل جميل الإمامُ ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- خيمة الخليفة بعيد أضحى؛ فيقول إنه في “يوم النحر (520هـ/1126م) أمر أمير المؤمنين [المسترشد بالله] بنصب خيمة كبيرة وبين يديها خيمة أخرى..، ونصبوا في صدر الخيمة منبرا عاليا، وحضر خواص الخليفة ووزيره والنقباء وأرباب المناصب والأشراف والهاشميون والطالبيون وخَلقٌ من الوجوه (= الأعيان)، وأقبل الخليفة -ومعه ولده الراشد (ت 530هـ/1136م) وهو ولي عهده- فوقف إلى جانب المنبر وصلى بالناس صلاة العيد، وكان المكبِّرون خطباء الجوامع”.
أما إذا اقترن العيدُ بانتصارٍ عسكريّ فإنّ الزينة تتضاعف ويُبالغ في الاحتفاء بالقادة العسكريين؛ فهذا الإمام الذهبي يرسم لنا -في ‘تاريخ الإسلام‘- صورة لاجتماع العيد والنصر في يوم واحد، والقِبَاب العجيبة الاختراع التي أنشئت للاحتفالات بذلك سنة 547هـ/1152م: “ثمّ عاد [الخليفة المقتفي] إلى بغداد مؤيَّدًا منصورا [بإنهائه فتنة نشبت في واسط]، فغُلِّقت بغداد وزُيِّنَتْ وعُمِلَت القَبَاب، وعمل الذَّهَبيّون (= صاغة الذهب) بباب الخان العتيق قُبَّة عليها صورة [السلطان السلجوقي] مسعود (ت 547هـ/1152م) وخاصّ بك (القائد التركماني ت 548هـ/1153م) وعبّاس (= عباس الشِّحْنَة/مدير الأمن العام ت 541هـ/1146م) بحَرَكاتٍ تدور، وعُملت قباب عديدة عَلَى هذا النّموذج. وانطلق أهل بغداد في اللّعب.. واللَّهْو إلى يوم عيد النَّحْر [من السنة نفسها]”!!
موائد وعوائد
ربما كانت أطايب الطعام والشراب أبهجَ ما في العيد بالنسبة لكثيرين، ولذا كان للأقدمين بها شغفٌ وفنٌّ وتاريخ عريض؛ فقد نقل السيوطي (ت 911هـ/1506م) -في ‘تاريخ الخلفاء‘- عن أحد جلساء الخليفة المأمون (ت 218هـ/833م) وصفا عجيبا لتنوّع مائدته وخبرته بالطعام وفوائده الصحية؛ فقال: “تغدينا مع المأمون في يوم عيد فوضع على مائدته أكثر من ثلاثمئة لون، قال: فكلما وضع لون نظر المأمون إليه، فقال: هذا نافعٌ لكذا، ضارٌّ لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم فليتجنب هذا، ومن كان منكم صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا”!!
أما الفاطميون فكانوا ذوي عنايةٍ بالحلويات والمرطّبات حسبما يخبرنا به المقريزيّ بتصويره صبيحةَ عيدٍ بقصر الخليفة الفاطميّ الآمر (ت 524هـ/1130م)؛ فقال: “فلما أصبح الصباح كان قد حُمل من القصر في الليل طوافير (= صحون عميقة) فيها عدة موائد للفطر في يوم العيد، وحُمل برسم فطر الخليفة الصواني الذهب…، فلما كان السحر من عيد الفطر جِيءَ بين يدي الخليفة بما أحضِر من قصوره في مواعينه الذهب المرصَّعة -وعليها المناديل المُذْهبة- من التمر المحشو والجَوارِشيات (= نوع من الحلوى) بأنواع الطيب وغير ذلك”.
وقد كانت موائدُهم -وخاصة في العيد- عامرةً بأصناف الأطعمة والحلويات، على نحو ما نجد وصفه عند ابن تَغْري بَرْدي لمائدة الخليفة الفاطميّ العزيز؛ ففي أحد الأعياد “نُصب إلى فسقية (= حوض ماء فيه نافورة) كانت في وسط الإيوان سماط (= مائدة طولية) طوله عشرون قصبة، عليه من الخُشْكَنان (= خبزة مقلية محشوة)، والبِسْتَنْدُود (= فطائر محشوة)، والبَزْماوَرْد (= حلوى عجين بالسكر) مثل الجبل الشاهق! وفي كلّ قطعة منها ربعُ قنطار فما دون ذلك إلى رطل؛ فيدخل الناس فيأكلون ولا منع ولا حجر..، بل يفرّق على الناس ويحمل إلى دورهم”. ثم ذكر أن العزيز “كان أوّل من رتّبها في عيد الفطر خاصّة”.
ويستفيضُ في الوصف بعد ذلك قائلًا: “وأمّا سماط الطعام ففي يوم عيد الفطر اثنتان.. وفي عيد النحر مرّة واحد، ويُعبّى السّماط في الليل، وطوله ثلاثمئة ذراع (= 184م تقريبا) في عرض سبع أذرع، وعليه من أنواع المأكل أشياء كثيرة؛ فيحضر إليه الوزير أوّل صلاة الفجر والخليفة جالس في الشبّاك، ومُكّنت الناس منه فاحتملوا ونهبوا ما لا يأكلونه، ويبيعونه ويدّخرونه، وهذا قبل صلاة العيد. فإذا فرغ من صلاة العيد مدّ السّماط المقدّم ذكره فيؤكل، ثمّ يُمَدُّ سماطٌ ثانٍ من فضّة يقال له المدوّرة، عليها أواني الفضّة والذهب والصّيني، وفيها من الأطعمة الخاصّ ما يُستحى من ذكره.
والسّماط بطول القاعة؛ وهو خشب مدهون.. عرضه عشر أذرع. ويُحطّ في وسط السماط واحد وعشرون طبقا في كلّ طبق واحد وعشرون خروفا؛ ومن الدجاج ثلاثمئة وخمسون طائرا، ومن الفراريج مثلها، ومن فراخ الحمام مثلها. وتتنوّع الحلوى أنواعا؛ ثم يمدّ بخلل تلك الأطباق أصْحُنٌ خزفيّات في جنبات السّماط، في كلّ صحن تسع دجاجات في ألوان فائقة من الحلوى، والطّباهجة (= الكباب) المفتقة بالمسك الكثير. وعدّة الصحون خمسمئة صحن، مرتّب كلّ ذلك أحسن ترتيب. ثم يؤتى بقصرين (= عربتين) من حلوى قد عُملا بـ‘دار الفطرة‘ (= مخزن حكومي لصنع وتوزيع الحلويات)، زنة كلّ واحد سبعة عشر قنطارا (= اليوم 650 كلغ تقريبا)..، ثم يخرج الوزير ويذهب إلى داره؛ ويُعمل سماط يقارب سماط الخليفة. وهكذا يقع في عيد النحر في أوّل يوم منه”!
مودة اجتماعية
وكان غيرُ الملوك والوزراء والأمراء يقيمون ولائمهم ويمدّون أسمطتهم في الأعياد؛ فقد ورد مثل ذلك عن بعض أعيان الفقهاء والعلماء وغيرهم كما يفيدنا ابن عساكر -في ‘تاريخ دمشق‘- نقلا عن الإمام عبد الله بن عون المزني (ت 151هـ/767م) أنه قال: “ما أتينا محمّدا (= ابن سيرين) في يوم عيد قَطُّ إلّا أطعمنا خبيصاً أو فالوذجاً”، وهذان من أشهر الحلويات وأطيبها آنذاك.
ويحدثنا ابن بَشْكُوال (ت 578هـ/1183م) -في ‘الصِّلة‘- أن الإمام هشام بن سليمان القيسي (ت 420هـ/1030م) كان “يصنع في عيد الفطر طعاما كثيرا لأهل الحصن (= حصن الفهْميِّين قرب طليطلة) ولمن حضره من المرابطين وينفق فيه المال الكثير، وكان يرابط بنفسه في الثغور”! وروى ابن وهاس الزَّبيدي (ت 812هـ/1410م) -في ‘العقود اللؤلؤية‘- أن “الفقيه عبد الرحمن (الشهابي ت 649هـ/1251م).. كان.. أكبر الفقهاء، وكان الفقهاء بذي جبلة لا يطلعون من مصلى العيد -يوم العيد- إلا إلى بيته، يدخلون إلى سماط يعمله لهم”.
وقد كان الموسرون يتفقدون جيرانهم في الأعياد -ولو بصدقات سِرٍّ- حتى ينالهم حظ من خيراتها وسرورها؛ ومن غرائب ذلك ما أورده ابن شاهين المَلَطي (ت 920هـ/1515م) -في ‘نيل الأمل‘- فقال: “وفيه (= عيد الأضحى 825هـ/1423م) وقعت غريبة نادرة، وهي أن رجلا له عائلة وأولاد وهو من الفقراء..، لما جاء العيد وذُبحت الضحايا وأكِلت اللحوم المشوية هاجت شهوتُهم لأكل شيء مما يشويه الناس، وطلبت العيال من هذا الفقير شيئا من ذلك فما وجد..، فأخذ يعللهن وهن يبكين حتى جَنّ (= أظلمَ) عليه الليل وهو متحسر، فصار يسمع في ليلة حركة تتوالى بطول الليل هو وأم الأولاد..، فلما أصبحا وجدا كوماً من اللحم كثيرا.. في دارهم، كانت الفرس تنقله طول الليل لا يدرون من أين هو! فسُرّ بذلك وعيَّدوا منه، بل واقتنوا منه شيئا له وفرة”!!
ويدل صنيع الإمام ابن سيرين المذكور وتجهيزه للحلويات بكلّ عيد على أن إعدادها بمناسبة الأعياد عادة قديمة جدًّا، ومثله تحضير أكلات الفسيخ في الأعياد، وكانوا يسمونه السمك المملَّح؛ فقد أفادنا سبط ابن الجوزي -في ‘مرآة الزمان‘- بتناوله الفسيخ مرة بعيد الفطر، فقال في ترجمة الشيخ عبد الله الأرمني الزاهد (ت 631هـ/1244م): “كنتُ أجتمع به [بالقدس]، واتَّفق أنني يوم عيد الفطر أكلتُ سمكًا مالحًا وصَعِدْتُ إلى زاويته وقعدنا نتحدَّث”.
وكان من عادتهم اغتنامُ الأعياد لإقامة المناسبات السعيدة كتولية العهد وتقليد الإمارة وختان الأبناء؛ فالمقريزي يخبرنا -في ‘اتعاظ الحنفا‘- بأنّ الخليفة الفاطمي المعز (ت 365هـ/975م) “لمّا مات كُتم موته [من ربيع الأول] إلى يوم النحر (= عيد الأضحى) فأُظهِرت وفاته؛ فركب [ابنه] العزيز بالمظلة، وخطب بنفسه وعزّى نفسَه، والناسُ تسلِّم عليه بالخلافة، وركب إلى قصره”. وهكذا جعل العزيزُ العيدَ مناسبةً لإعلان توليه منصب الخليفة!
ويشْبهه ما سجّله البُنداري الأصفهاني (ت 643هـ/1245م) -في ‘مختصر سنا البرق الشاميّ‘- عن الاحتفال بتعيين الملك الصالح إسماعيل (ت 577هـ/1182م) نجل نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1174م)؛ فقال: “وأمَّر نورُ الدين ولدَه الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر، واحتفلنا لهذا الأمر وغُلقت محال دمشق أياماً، وبُنيت القصور طباقاً، وكل منهم رتّب المغاني (= المطربون) بأغاني”. أما الختان فأشهر ما ذكر فيه ختانُ خضر (ت 708هـ/1308م) ابن الظاهر بيبرس (ت 676هـ/1277م)؛ فقد جاء عند الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه “فِي يوم العيد (= الفطر 772هـ/1370م) خُتِن خضِر ولدُ السّلطان فِي عدّة صبيان من أولاد الأمراء”.
أساليب لطيفة
لعلّ أصل هدايا العيد ما كان يصنعه الملوك من “الخِلَعَ” أي الثياب التي يُهديها السلطان تكريما للأمراء والوجهاء والأعيان. على أن التاريخ الإسلامي احتوى نماذج لهدايا نقدية، تُعطى في العيد لمن تُرجى بركته، للفقير على وجه الصدقة وللعلماء والأدباء على سبيل الإحسان والإكرام؛ فمن ذلك ما ذكره ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- من أن الخليفة المستنصر (ت 640هـ/1242م) بعث “يوم العيد صدقاتٍ كثيرة، وإنعامًا جزيلا إلى الفقهاء والصوفية وأئمة المساجد، على يديْ محيي الدين ابن الجوزي (ت 656هـ/1258م)”.
وأما الفاطميون فقد عُرفوا بهذا التقليد الذي كانوا يدعونه باسمه المعروف اليوم “العيديّة”؛ فقد قال المقريزي -في ‘اتعاظ الحنفا‘- إن الخليفة الفاطميّ… “قرر للشيخ أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسديه (حسداي) بن يوسف (ت نحو 530هـ/1136م) -الإسرائيلي (= اليهودي) الأصل- لما قدم من الأندلس وصار ضيف الدولة [وكان طبيبًا حاذقًا]: جاريًا (= راتباً)، وكسوة شتوية، وعيدية”. ويبدو أنه حتى الملوك كانوا يتلقون “عيديات” بلَبوس هدايا في الأعياد يقدمها رجالات بلاطهم؛ فهذا ابن دحية (ت 633هـ/1235م) يخبرنا -في ‘المُطرب‘ أنه “أهدى الناسُ في يوم عيد إلى السلطان المعتمد.. ابن عباد (ت 488هـ/1095م) مما يُهدَى للملوك في الأعياد”!!
أما أظرف العيديّات فهو ما كان يُمنح للضيوف عينيًّا دون أن يشعروا وبطريقةٍ غاية في اللطف، وذلك بأن يُحشى الكعك بالدنانير الذهبية بدلًا من السكر، أو تُلبّس الحلوى على فستقٍ من ذهب! فقد ذكر المقريزي -في ‘اتعاظ الحنفا‘- قصة هذين الصنفين العجيبين من الضيافة؛ فقال في ترجمة القاضي ابن مُيَسَّر (ت 531هـ/1137م): “وهو الذي أخرج الفستق الملبَّس بالحلوى، فإنه بلغه أن [الوزير الإخشيدي] أبا بكر.. المادَرائي (ت 345هـ/956م) عمل الكعك.. وعمل عوضاً من حشو السكر دنانير..؛ فأراد القاضي ابن مُيسر أن يتشبه بأبي بكر المادرائي في ذلك؛ فعمل صحناً منه لكن جعل فستقًا قد لُبّس حلوى وذلك الفستق من ذهب، وأباحه أهلَ مجلسه”!
وقد كان مشهورًا تقديم الكعك والملبّس والمكسّرات والفواكه المجففة في العيد، وكلٌّ يقدّم على قدر طاقته وبما تقتضيه مروءته؛ فها هو ابن عساكر يروي -في ‘تاريخ دمشق‘- بإسناده إلى خالد بن يزيد المرّي (ت 166هـ/782م)، قال: “رأيت مكحولاً (الإمام التابعيّ ت 112هـ/731م) يفرّق على أصحابه الزبيب، يعني يوم العيد”.
وكان من طقوس كثيرٍ من الملوك والأمراء في العيد أن يخرجوا للصيد؛ ومن ذلك ما ذكره ابن تغري بردي من أن الأمير الطولوني “خُمارَوَيْه (ت 282هـ/896م) كان يتقلّد في يوم العيد سيفًا بحمائل، ولا يزال يتفرّج ويتنزّه ويخرج إلى المواضع.. كالأهرام ومدينة العقاب.. لأجل الصيد فإنه كان مشغوفا به، لا يكاد يسمع بسَبُع إلا قصده ومعه رجال عليهم لُبُود (= أغطية صوف سميكة) فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابته عُنْوَةً وهو سليم” فيضعونه في قفص خشبي مُحْكَم الصنعة! ثم عقّب المصنّف مقارنا بين عادات العيد في العصرين بقوله: “إن أعيادنا الآن كالمآتم بالنسبة لتلك الأعياد السالفة”!!
لهو ولعب
يعود أصلُ اللعب يوم العيد إلى زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد سبق حديثُ عائشة عن نظرها إلى لعب السودان بالحراب يوم العيد، ثم تطوّر الأمرُ تطورًا كبيرًا. وكان من أشهر ألعابهم في العيد لعبة: “رمْيُ القبق” التي ذكر ابن واصل الحموي (ت 697هـ/1298م) -في ‘مفرج الكروب‘- أن السلطان نور الدين زنكي كان شغوفًا بها. والقبق بالتركية هي: القَرْع، وقد شرحها المقريزي -في ‘الخطط والآثار‘- فقال: “القبق عبارة عن خشبة عالية جدا، تُنصب في براح من الأرض، ويُعمل بأعلاها دائرة من خشب [تُشبّه بالقرعة]، وتقف الرماة بقسيها وترمي بالسهام جوف الدائرة لكي تمر من داخلها إلى غرض هناك، تمريناً لهم على إحكام الرمي، ويعبّر عن هذا بالقبق في لغة الترك”.
وإذا كان للفُرسان والعساكر ألعابهم ذات الطابع الحربي فإن للأطفال لعبهم الخاصة في العيد، ومنها أنهم كانوا يلعبون بالجوز؛ فقد جاء عند ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- من أخبار الزاهد السَّرِيّ السقطيّ (ت 253هـ/867م)، أنه قال: “مررت في يوم عيد فإذا معروف (الكرخيّ ت 200هـ/816م) ومعه صغير شَعِثُ (= رثُّ) الحال، فقلت: ما هذا؟ فقال: هذا كان واقفًا عند صبيان يلعبون بالجوز وهو مُفكّر (= مهموم)، فقلتُ له: ما لك لا تلعب كما يلعبون؟ فقال: أنا يتيم ولا شيء معي أشتري به جَوْزاً ألعب به”؛ فاشترى له السريّ وأفرحه!
لقد سبق ذكْرُنا لخبر الجاريتين الأنصاريتين وغنائهما لعائشة في بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم العيد، ولعلّ ذلك ما جعل التابعين يرون أن الغناء وضرب الدفّ في العيد من السُّنَّة؛ فقد روى الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن الإمام الكبير عامر الشَّعبيّ (ت 106هـ/725م)، أنه قال: “مَرَّ [الصحابي] عِيَاضُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَرِيُّ (ت نحو 80هـ/699م) فِي يَوْمِ عيد فقال: ما لي لا أَرَاهُمْ يُقَلِّسُونَ فَإِنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ؟! قَالَ [الإمام] هُشَيْمٌ (ت 183هـ/799م): التَّقْلِيسُ: الضَّرْبُ بِالدُّفِّ”.
وقد توسّع الخلفاء بعدُ في الغناء وصنوفه وأحيَوْا ليالي العيد بالطرب؛ ومن ذلك ما أورده ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- من خبر هارون الرشيد (ت 193هـ/809م) ومغنيه الأثير إبراهيم الموصلي (ت 188هـ/804م)؛ فقال: “أتى إبراهيمُ الموصلي يوم العيد عند الرشيد وغنّاه فأطربه، فَقَالَ: يا إبْرَاهِيم، سَلْ ما شئتَ…”! فوهبه الرشيد مسألته وأكرمه.
ومن مظاهر الابتهاج في العيد اعتبارُه مناسبةً أدبيّة ينالُ فيها الشعراء أحسن المكافآت بإلقاء القصائد بين أيدي الملوك، إذ كان بعضُ الملوك يحرصُ على إكرام الشعراء والسماع منهم في الأعياد خاصة؛ فقد ذكر الشاعر المؤرخ عمارة اليمني (ت 569هـ/1174م) -في ‘تاريخ اليمن‘- من أخبار سلطان اليمن المعظّم محمّد بن سبأ (ت 548هـ/1153م)، قال: “ورأيته في يوم عيد وقد أحرقته الشمس في المصلى بظاهر مدينة الجُوَّة (= مدينة مندثرة الآن)، والشعراء يتسابقون بالنشيد؛ فقال لي: قل لهم -وارفع صوتك- لا يتزاحمون! فلست أقوم حتى يفرغوا، وكانوا ثلاثين شاعرا، ثم أثابهم جميعا”!!
جوائز ثمينة
ومن حفلات إلقاء قصائد التهنئة بعيد الفطر أو عيد الأضحى ما ذكره الناصري في كتابه ‘الاستقصا‘؛ قال: “وأعد الشعراء كلمات أنشدوها يوم عيد الفطر بمشهد الملأ في مجلس السلطان، وكان من أسبقهم في ذلك الميدان شاعر الدولة أبو فارس عبد العزيز الملزوزي (ت 697هـ/1298م)..، أَتَى بقصيدة طويلة..، ذكر فيها سيرة السلطان وغزواته، وغزوات بنيه وحفدته..، وأُنشِدت بمحضر السلطان والحاشية، فأمر لمنشئها بألف دينار (= اليوم 170 ألف دولار أميركي تقريبا) وخلعة ولمنشدها بمئتيْ دينار”.
ومن اللافت أنه كان للنساء الشواعر حضور في هذه المناسبات الأدبية والمنافسات الشعرية؛ فالقاضي التنوخي يخبرنا -في ‘نشوار المحاضرة‘- قائلا: “حضرتُ بغداد في مجلس الملك عضد الدولة (البويهي ت 372هـ/983م) في يوم عيد الفطر سنة سبع وستين وثلاثمئة والشعراء ينشدونه التهاني، فحضرت عابدةُ الجُهَنية.. فأنشدت قصيدةً لم أظفر منها بشيء”!
وقد كان لعادة الإفراج عن السجناء في الأعياد جذورٌ ممتدة في تاريخنا؛ فسبط ابن الجوزي يقول إنه “في شهر رجب وشعبان ورمضان (402هـ/1012م) واصل [الوزير البويهي] فخر الملك (ت 407هـ/1017م) الصدقاتِ..، وفرَّق الثيابَ والحنطةَ والتمرَ والدراهمَ والدنانيرَ يوم العيد فِي الفقراء والمساكين، وركبَ إلى الصلاة فِي الجوامع، وأعطى الخطباء والمؤذنين الثياب والدنانير، وأطلق [أصحاب] الحُبوس، ومن كان محبوسًا فِي حبس القاضي على دينار وعشرة دنانير قضاها عنه، ومن كان عليه أكثر أقام الكفيل وخرج، فأطلق من كان فِي حبس المعونة ممَّن صَغُرت جنايتُه وحسُنَتْ توبتُه؛ فكثُر الدُّعاءُ له فِي الجوامعِ والمساجدِ والأسواقِ”.
ولم تكن إفراجات العيد حصرًا على الغارمين وأشباههم، بل كانت تشملُ السجناء السياسيين والمتمردين السابقين أحيانًا؛ فابن تغري بردي يذكر أنه “في يوم عيد الفطر سنة [764هـ/1363م] رَسَمَ (= أمَر) السلطان (الأشرف شعبان ت 778هـ/1377م) بالإفراج عمن بقي في الإسكندرية من أصحاب [القائد المتمرد] طيبغا الطويل (ت 770هـ/1371م)، فأفرِج عنهم وحضروا فأخرجوا إلى الشام متفرّقين بطّالين”!
وإذا كان بعضُ السجناء حظي بإفراجٍ بادرتْ إليه الحكومة، فإنّ بعض من ضنّ سجانوهم بإطلاقهم بادروا فانتزعوا حريتهم بأنفسهم مستفيدين من أجواء العيد؛ فقد وثّق الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- قصة هروب “محمد بن القاسم بْن عليّ بْن عُمَر بْن زين العابدين عليّ بن الحسين” (ت بعد 219هـ/834م) الذي كان أحد الثائرين على العباسيين؛ فقال: “وقُبِضَ عَلَيْهِ وأُتِيَ بِهِ إلى [الخليفة] المعتصم في شهر ربيع الآخر من السنة، سنة تسع عشرة [ومئتين] فحُبس بسامرّاء، ثمّ إنّه هرب من حبْسه يوم العيد، وستر اللَّه عَلَيْهِ وأضمرته البلاد”!
ومن عجيب ما شملته إفراجات العيد الإفراجُ عن الجثامين المحتجزة؛ فقد ذكر ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- ضمن أحداث 237هـ/852م أنه “في عيد الفطر منها أمر [الخليفة] المتوكل (ت 247هـ/861م) بإنزال جثة [الثائر المصلوب الإمام] أحمد بن نصر الخزاعي (ت 231هـ/846م)، والجمعِ بين رأسه وجسده وأن يسلم إلى أوليائه، ففرح الناس بذلك فرحًا شديدًا، واجتمع في جنازته خلق كثير جدا”!!
المصدر : الجزيرة