في ظل تزايد حدة الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، أطلقت منظمتان إغاثيتان بلجيكيتان تحركًا قضائيًا اليوم الجمعة في بروكسل، للضغط على حكومة بلجيكا كي تتخذ إجراءات أكثر صرامة تجاه إسرائيل، بينما يواصل الاتحاد الأوروبي مناقشاته المنقسمة حول سبل الاستجابة للوضع المتدهور.
الجمعية البلجيكية الفلسطينية و”التنسيق الوطني للسلام والديمقراطية” هما الجهتان اللتان تقدمتا بالدعوى القضائية.
وتهدف القضية إلى دفع بلجيكا إلى تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل من جانب واحد، في ضوء ما تصفه المنظمات بـ”انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة” المرتكبة في قطاع غزة.
دعوى قضائية لفرض ضغوط مباشرة
في تصريح للمحامي فينسنت ليتيلييه، الذي يمثل المنظمات غير الحكومية، قال: “ما لم يحدث تغير مفاجئ، فإن الاتحاد الأوروبي ككل غير قادر على تعليق الاتفاقية..
ولهذا السبب نحن نطالب بتدخل مباشر من الدول الأعضاء بشكل فردي”. وأضاف أن المنظمات تطالب أيضًا بإغلاق المجال الجوي البلجيكي أمام الرحلات التي تنقل معدات عسكرية إلى إسرائيل.
عُقدت جلسة استماع أولية يوم الجمعة أمام محكمة في بروكسل، على أن تبدأ الإجراءات الكاملة في 15 سبتمبر المقبل.
المجاعة تطرق أبواب غزة
تزامنًا مع التحركات القانونية، تتوالى التحذيرات من منظمات الإغاثة بشأن تفشي الجوع في غزة. حيث صرّحت منظمة أطباء بلا حدود أن ربع الأطفال دون سن الخامسة،
إضافة إلى الأمهات الحوامل والمرضعات الذين تم فحصهم في العيادات الأسبوع الماضي، يعانون من سوء التغذية.
وتحدثت الأمم المتحدة، قبل يوم واحد، عن أن واحدًا من كل خمسة أطفال في مدينة غزة يعاني من سوء التغذية، في مؤشرات وصفتها منظمة الصحة العالمية بأنها أزمة “من صنع الإنسان”.
تدفق المساعدات ما زال محدودًا، رغم ضغوط متزايدة من عواصم أوروبية كبرى. وكانت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة قد أصدرت اايوم الجمعة “نداء طوارئ” مشتركا يدعو إلى تسهيل دخول المساعدات الإنسانية دون قيود، وسط انتقادات أوروبية متزايدة لإسرائيل بشأن حصارها المستمر للقطاع منذ مارس/آذار، والذي لم يتم تخفيفه جزئيًا إلا بعد شهرين من فرضه.
الشارع الغزي في مواجهة الكارثة
في مشاهد مؤلمة وثقتها عدسات أ ف ب وأسوشيتد برس، تظهر فتاة فلسطينية نازحة وهي تتفاعل بامتنان مع حصولها على حساء العدس في إحدى نقاط توزيع الغذاء في غزة يوم 25 يوليو، في وقت كان فيه مشيعون يؤدون صلاة الجنازة على الصحفي الفلسطيني آدم أبو هربيد الذي قُتل في غارات ليلية إسرائيلية.
كما وثقت وكالة أسوشيتد برس صورة للأم نعيمة أبو فول وهي تحتضن طفلها “يزن” البالغ من العمر عامين، والذي يعاني من سوء التغذية، في مخيم الشاطئ بمدينة غزة. بينما شوهد فلسطينيون يحملون أكياسًا وصناديقًا من مساعدات برنامج الغذاء العالمي التي وصلت أخيرًا إلى مدينة غزة.
موقف إسرائيل
في المقابل، رفضت الحكومة الإسرائيلية الاتهامات الدولية، واعتبرت أن الأزمة الغذائية والإنسانية في غزة تُستخدم لتشويه صورتها، مضيفة أن الإجراءات الأمنية – بما فيها الحصار – جاءت نتيجة ما تصفه بـ”تهديدات أمنية من حماس”، بحسب تصريحات لمسؤولين إسرائيليين.
ومع استمرار الشلل السياسي داخل أروقة الاتحاد الأوروبي، يبدو أن الضغط من الشارع الأوروبي ومنظماته المدنية بدأ يأخذ بعدًا قانونيًا أكثر وضوحًا، في محاولة لفرض تغيير في السياسات تجاه الحرب المستمرة في غزة، بينما يتسارع تدهور الوضع الإنساني على الأرض بشكل مقلق.
تحركات القانونية والسياسية داخل أوروبا
في الوقت الذي يتصاعد فيه القلق الدولي بشأن الأوضاع الإنسانية الكارثية في قطاع غزة، بدأت تتشكل موجة من التحركات القانونية والسياسية داخل أوروبا، تقودها منظمات مدنية وحقوقية، وترافقها أصوات خبراء يحذرون من تقاعس الحكومات في مواجهة ما وُصف بأنه “سياسة تجويع ممنهجة”.
في بروكسل، اعتبرت الباحثة في القانون الدولي الإنساني، مها عبد الحميد، أن الدعوى القضائية التي رفعتها منظمتان بلجيكيتان لوقف التعاون الأوروبي مع إسرائيل تشكل سابقة قانونية مهمة،
قائلة: “الاتفاقيات الأوروبية مع إسرائيل تنص بوضوح على احترام حقوق الإنسان. ما يحدث في غزة يمثل انتهاكًا صارخًا لهذه المبادئ، واستمرار الشراكة بدون محاسبة يعني أن أوروبا شريكة بالصمت”.
من جانبه، رأى الدكتور جان بيير فاندرفيلد، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة لوفان، أن القضية قد تفتح الباب أمام خطوات مماثلة في دول أوروبية أخرى، مثل إسبانيا أو إيرلندا، خاصة في ظل انقسام الاتحاد الأوروبي حول كيفية التعاطي مع إسرائيل.
وقال: “الشارع الأوروبي بات أكثر وعيًا، وهناك ضغوط حقيقية على الحكومات لاتخاذ مواقف تتجاوز بيانات القلق المعتادة”.
وفي مشهد موازٍ، أكدت منظمة “أطباء بلا حدود” أن الوضع الصحي في غزة بلغ مستويات تنذر بالانهيار، مشيرة في بيان حديث إلى أن ربع الأطفال دون سن الخامسة، والأمهات الحوامل والمرضعات الذين فحصتهم فرقها، يعانون من سوء تغذية.
وأضاف البيان أن هذه النسب “تدل على أزمة لا يمكن تفسيرها إلا باعتبارها من صنع الإنسان”، في إشارة إلى الحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع منذ مارس الماضي.
أما الناشطة الفلسطينية المقيمة في بلجيكا، نادية شحادة، فرأت أن التحركات القانونية في بروكسل تعكس تغييرًا في المزاج الشعبي الأوروبي، موضحة: “لم يعد بإمكان الناس تجاهل الصور التي تأتي من غزة كل يوم. الناس سئموا من ازدواجية المعايير ويطالبون بأفعال حقيقية، وليس مجرد إدانات شكلية”.
من جهته، أكد كريستوف ويلمان، منسق الحملات في منظمة أوكسفام، أن التجويع في غزة “ليس نتيجة أزمة طبيعية، بل سياسة متعمدة”، ودعا الدول الأوروبية إلى وقف تصدير السلاح ووقف التعاون الاقتصادي مع إسرائيل.
وفي ظل هذا السيل من التحذيرات، التزمت المفوضية الأوروبية الحذر. حيث صرحت إحدى المتحدثات باسمها بأن “المفوضية تشعر بقلق عميق”، لكنها أضافت أن “أي إجراء ملموس تجاه إسرائيل يتطلب إجماعًا من الدول الأعضاء، وهو ما لم يتحقق حتى الآن”.
وبينما يواصل الاتحاد الأوروبي تردده، يواصل الأطفال في غزة النضال من أجل وجبة غذاء واحدة، فيما تتوالى الصور من هناك، لطفلة نازحة تفرح بصحن حساء العدس، ولأم تحتضن ابنها المصاب بسوء التغذية، وكأنها تحضنه من الموت القادم ببطء.
