في مشهد تتسارع فيه الكارثة الإنسانية على نحو غير مسبوق، أطلقت وكالات الأمم المتحدة تحذيرًا شديد اللهجة اليوم الثلاثاء، مؤكدة أن قطاع غزة بات على شفا مجاعة واسعة النطاق، في ظل انهيار تام للأنظمة الغذائية وتفاقم مستويات الجوع وسوء التغذية، لا سيما بين الأطفال.
ففي تقرير حديث صادر عن “نظام التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي”، وهو المرجع العالمي المعتمد لرصد المجاعات،
تم الكشف عن أن اثنين من المؤشرات الثلاثة التي يُستند إليها رسميًا لإعلان المجاعة، قد تحققا بالفعل في أجزاء من قطاع غزة. وهذا يعني، من الناحية التقنية، أن المجاعة أصبحت واقعًا وشيكًا إن لم تكن قد بدأت بالفعل في بعض المناطق.
منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، أجمعت في بيانها المشترك أن “الوقت ينفد بسرعة”،
ودعت إلى استجابة إنسانية عاجلة وكاملة النطاق. وصرّح المدير العام للفاو، كو دونغ يو، بأن “غزة الآن على حافة مجاعة واسعة النطاق”، موضحًا أن المجاعة ليست نتيجة نقص المواد الغذائية فحسب، بل تعود إلى فقدان الوصول إليها، وانهيار سلاسل الإمداد، وعجز الأسر عن شراء أبسط مقومات الحياة.
وأضاف: “الحق في الغذاء هو حق إنساني أساسي، ويُسلب الآن من شعبٍ بأكمله”.
الوضع الميداني يُظهر مؤشرات أكثر قتامة. فقد انخفض استهلاك الغذاء بشكل حاد منذ مايو، وتُظهر البيانات الجديدة أن حوالي 39% من سكان غزة يقضون أيامًا متتالية دون أن يتناولوا شيئًا.
وتُقدّر الأمم المتحدة أن أكثر من نصف مليون شخص يعيشون حاليًا في ظروف تشبه المجاعة، بينما يعاني باقي السكان من مستويات طوارئ من الجوع.
الأطفال، وكالعادة في مثل هذه الكوارث، هم الحلقة الأضعف. ففي مدينة غزة، تضاعفت معدلات سوء التغذية الحاد بين الأطفال دون سن الخامسة أربع مرات في غضون شهرين فقط، لتصل إلى 16.5%،
وهي نسبة خطيرة تشير إلى تهديد مباشر لحياة الآلاف. وحذّرت اليونيسف من أن جميع الأطفال في غزة، وعددهم نحو 320 ألف طفل دون سن الخامسة، معرضون الآن لخطر سوء التغذية الحاد، ويعاني الآلاف منهم من أسوأ أشكاله فتكًا.
المديرة التنفيذية لليونيسف، كاثرين راسل، قالت بعبارات صادمة:”الأطفال الصغار والرضّع يموتون حرفيًا من الجوع”.
وشدّدت على أن الوصول الإنساني الفوري وغير المشروط هو السبيل الوحيد لتفادي المزيد من الوفيات التي يمكن تفاديها، مشيرة إلى أن معظم خدمات التغذية قد انهارت، في ظل غياب المياه النظيفة، وحليب الأطفال، والأغذية العلاجية المنقذة للحياة.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وصف الوضع بأنه “كارثة إنسانية ذات أبعاد ملحمية”، وقال:”هذا ليس تحذيرًا… بل هو واقعٌ يتكشف أمام أعيننا. يجب أن يتحول تدفق المساعدات الحالي إلى بحرٍ لا يتوقف من الغذاء والماء والدواء والوقود. هذا الكابوس يجب أن ينتهي”.
وشدد غوتيريش على ضرورة وقف إطلاق نار إنساني فوري ودائم، والإفراج غير المشروط عن الرهائن، وتسهيل الوصول الكامل للمساعدات الإنسانية إلى كافة أنحاء القطاع، واصفًا ذلك بأنه “اختبار لإنسانيتنا المشتركة”.
وفي السياق ذاته، عبّرت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، سيندي ماكين، عن استيائها من بطء التحرك الدولي، قائلة: “الانتظار حتى صدور إعلان رسمي عن المجاعة للتحرك هو أمر غير مقبول. الناس يموتون بالفعل من سوء التغذية، وكلما طال الانتظار ارتفع عدد القتلى”.
وطالبت بـ”إغراق غزة بالمساعدات فورًا وبدون عوائق”، مؤكدة أن الحد الأدنى المطلوب شهريًا لإنقاذ الموقف يتجاوز 62 ألف طن من المواد الغذائية.
ولم تقتصر التحذيرات على الغذاء فقط، إذ أكدت الوكالات الأممية أن الوقود والمياه وإصلاح البنية التحتية المتضررة ضرورة لا غنى عنها لضمان استمرار العمليات الإنسانية ومنع المزيد من الوفيات.
وفي بيانها المشترك، طالبت الفاو وبرنامج الغذاء العالمي واليونيسف باتفاق فوري ومستدام لوقف إطلاق النار، والسماح الكامل بمرور المساعدات من جميع المعابر، وإعادة تشغيل الخدمات الأساسية، إلى جانب الاستثمار الدولي في إعادة بناء أنظمة الغذاء والزراعة في القطاع.
واختُتم البيان بتحذير لا لبس فيه: “على العالم أن يتحرك الآن. حياة مئات الآلاف، خصوصًا الأطفال، تعتمد على ذلك”.
آراء الخبراء والمحللين حول تحذيرات المجاعة في غزة
أثارت التحذيرات الصادرة عن وكالات الأمم المتحدة بشأن اقتراب قطاع غزة من المجاعة، ردود فعل قوية من خبراء الأمن الغذائي والسياسات الإنسانية، والذين أجمعوا على أن الأوضاع تجاوزت مرحلة التحذير وباتت تلامس حدود الكارثة.
د. مازن الصفدي – خبير في شؤون الغذاء والطوارئ الإنسانية
قال إن المؤشرات التي تم الإعلان عنها “ليست مجرد أرقام مخيفة، بل هي دلائل علمية دقيقة تستوفي المعايير الأممية لإعلان المجاعة”. وأوضح أن “نظام التصنيف المتكامل الذي استُند إليه في التقرير لا يُصدر مثل هذه التقييمات إلا بعد التأكد من استيفاء الشروط الصارمة التي تشمل معدل الوفيات، وسوء التغذية، وانعدام الوصول إلى الغذاء”.
وأكد الصفدي أن الوضع في غزة الآن يمثل “مأساة إنسانية مركبة”، حيث تتقاطع آثار الحصار، والانهيار الصحي، والدمار البيئي، مع انعدام سبل العيش، ما يجعل الاستجابة الدولية ضرورة أخلاقية قبل أن تكون سياسية.
كارين أبو زيد – مسؤولة سابقة في الأونروا وخبيرة في شؤون اللاجئين
وصفت الوضع بأنه “أسوأ أزمة غذائية شهدها الفلسطينيون منذ النكبة”، مشيرة إلى أن العجز في دخول المساعدات لم يعد يُعزى فقط إلى ظروف الحرب، بل إلى “قرارات سياسية متعمدة تعرقل الإغاثة الإنسانية وتستخدم الغذاء كسلاح”.
وأضافت أن هناك “فجوة مرعبة” بين الحاجة الفعلية في الميدان والاستجابة الدولية، وأنه لا يمكن الحديث عن التعافي أو إعادة البناء دون وقف فوري لإطلاق النار وتدفق آمن ومنتظم للمساعدات.