شكّل الهجوم الأوكراني المعروف بالاسم الرمزي “شبكة العنكبوت” صدمة عنيفة هزت عمق الأراضي الروسية في توقيت بالغ الحساسية، تزامنًا مع وساطة أميركية نشطة لإنهاء الحرب.
فقد كبّد الهجوم روسيا خسائر فادحة في أسطولها من القاذفات الاستراتيجية، بعد أن نُفِّذ باستخدام أكثر من 100 طائرة مسيّرة استهدفت أربع قواعد جوية كبرى بحسب ورقة تحليلية لمركز أمد للدراسات الاستراتيجية .
العملية، التي جرى التحضير لها على مدى عام ونصف، تجلّى فيها إبداع عملياتي وتكتيكي لافت فقد لجأت الاستخبارات الأوكرانية إلى استخدام “حاويات متنقلة” بأسقف قابلة للطي لإخفاء المسيّرات، وهي هياكل قيل إنها نُقلت لمسافات طويلة داخل روسيا.
وعلى الأرجح، تطلّب تنفيذ الهجوم قدرة فائقة من الاستخبارات البشرية في مهام الاختراق والرصد وربما تجنيد العناصر المحلية وزرع الجواسيس. في الوقت ذاته، جرى تدريب المسيّرات بواسطة الذكاء الاصطناعي على أنماط الهجوم وتحديد الأهداف، مع التعامل مع مشكلات التشويش والرصد الراداري.
وكما هو متوقع في هذا النوع من العمليات المعقدة،وفقا لمركز أمد للدراسات السياسية تمكّن المنفذون من الحفاظ على مستوى عالٍ من أمن العمليات طوال فترة الإعداد، وهي مهمة شاقة بالنظر إلى القيود الأمنية الهائلة في زمن الحرب.
في عصر المعجزات التكنولوجية، بات تحقيق المفاجأة—بمستوياتها الثلاثة: التكتيكية والعملياتية والاستراتيجية—ممكنًا ومتاحًا بيد القادة العسكريين، وذلك بفضل التقلّص المستمر في حجم الأسلحة والمعدّات، مقرونًا بتعاظم قوتها النارية، وتنوّع أدوات الحرب وتعدد أذرع الجيوش الحديثة: برية، بحرية، جوية، فضائية، وسيبرانية.

كما أن الجغرافيا الروسية المترامية، برغم ما تمنحه من عمق استراتيجي، تطرح تحديات جمّة؛ فهي تجعل احتلال البلاد مهمة شاقة، لكنها في المقابل تُعرّضها دومًا لاختراقات بسبب اتساع مساحات التشتت وصعوبة التأمين الكامل.
لكن تفسير العملية الأخيرة لا يمكن اختزاله في هذه الاعتبارات التقنية أو الجغرافية وحدها. فما بدا جليًّا هو وجود ثغرات روسية حادة على صعيدي الاستخبارات والدفاع الجوي.
ولا تتوقف المعضلة في وقوع اختراق بحد ذاته، بل في فشل الروس في توقّع استهداف مواقع حساسة بهذا الحجم أصلًا، ثم التقاعس عن اتخاذ تدابير الحماية الكافية.
وإذا نظرنا إلى توزيع المسيّرات المهاجمة على أربع قواعد عسكرية مختلفة، يصعب افتراض وجود حالة “إغراق دفاعي” واسعة كما قد يُظن. بل إن البراعة الأوكرانية في التوجيه ضمن بيئات معقّدة كهذه، مع الدعم النيتوي للتغلب على التشويش والرصد، لا تُلغي حقيقة وجود خلل تنظيمي روسي في توزيع الطائرات،.
إلى جانب ذلك، فإن هذا الأداء العملياتي المتقدم ليس وليد لحظة، بل نتيجة مسار طويل. فخلال السنوات الثلاث الماضية، اختارت أوكرانيا عمدًا نهج الحرب غير المتماثلة لتعويض فجوة القوة، لا سيما في فترات انحسار الدعم الغربي وتفاقم التحديات.
وقد نفّذت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، بالتعاون مع أجهزة أخرى، عددًا لا يُحصى من العمليات داخل الأراضي الروسية، منها هجمات مسيّرة على أهداف رمزية مثل الكرملين في مايو 2023، وعمليات تخريب استهدفت البنى التحتية العسكرية: السكك الحديدية، المطارات اللوجستية، مواقع الصناعات الدفاعية، بل وحتى ما نُسب إليهم من تفجيرات في خطوط الغاز “نورد ستريم 1 و2”.

بناءً على ذلك، فإن ما جرى لا يمثّل قفزة نوعية بقدر ما هو تطور في الدرجة داخل نسق استراتيجي قائم. إنه، من زاوية من الزوايا، ليس حدثًا مفاجئًا كما يبدو، بل امتداد طبيعي لنهج أوكرانيا غير المتماثل القائم على الإبداع الاستخباراتي والاستثمار الذكي في الطيران المسيّر.
أما على مستوى التقييم السياسي والمعنوي -أو ما يمكن تسميته “الحساب الاستراتيجي”- فمن الضروري أن يُنظر إلى ما جرى كعملية خاصة واسعة النطاق. وعلى عكس الصورة الرومانسية التي تقدمها الأدبيات الشعبية أو الأفلام الحربية عن “الضربات الخارقة” التي تنفذها عناصر سرية ذات قدرات استثنائية،
كما ناقش الباحث جيمس د. كيراس، فإن العمليات الخاصة الحديثة لا تُقاس بقدرتها على إحداث شلل فوري أو صدمة لحظية، بل تُقاس بمدى ما تُحدثه من استنزاف نفسي ومادي طويل الأمد، خاصة عندما تُدمج بتنسيق عميق مع العمليات التقليدية في إطار حملة شاملة.
بناءً على ذلك، لا يمكن اعتبار الضربة الأخيرة حاسمة أو فاصلة كما يروّج البعض. فقوات العمليات الخاصة تُحقق أفضل نتائجها عندما تُستخدم كأداة لزعزعة الثقة في صفوف العدو، وخلق مناخ من الشك والخوف، وفرض إعادة انتشار للقوات وإعادة توزيع للموارد. كما أن مثل هذه الضربات، بما تحمله من مفاجأة ودقة، ترسّخ صورة لدى القيادة العسكرية المعادية بأن أي موقع -مهما بَعد أو تحصّن- قابل للاختراق.
وفي نهاية المطاف، لا يمكن للضربات الخاصة أن تُترجم إلى نصر ما لم تستثمرها القوات التقليدية وتُكمّل تأثيرها عبر التحرك في التوقيت والمكان المناسبين، ضمن استراتيجية استنزاف متدرجة تضبط الوتيرة وتتحكم في الإيقاع العام للمعركة