لم يكن تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إسرائيل مجرد تعليق عابر في مقابلة إعلامية. فقد قال ترامب بوضوح: «قد تكون إسرائيل منتصرة في الحرب، لكنها تخسر في عالم العلاقات العامة. قبل عشرين عامًا كان لإسرائيل اللوبي الأقوى في الكونغرس… واليوم لم يعد لها ذلك».
هذه الكلمات أثارت جدلاً واسعًا لأنها صادرة من شخصية عُرفت بأنها الأكثر دعمًا لإسرائيل في تاريخ البيت الأبيض. ومع ذلك، يعترف الرجل الذي نقل السفارة الأميركية إلى القدس ووقّع اعترافًا بضم الجولان السوري المحتل، أن إسرائيل تفقد تدريجيًا سلاحها الأهم: الشرعية الدولية وصورة الدولة المنتصرة أخلاقيًا.
ماذا قال ترامب تحديدًا؟
جاءت تصريحات ترامب في مقابلة مع موقع أميركي محافظ، حيث شدد على أن إسرائيل قد تكون تحقق إنجازات عسكرية، لكنها تخسر معركة الصورة والرأي العام.
أضاف أيضًا أن اللوبي الإسرائيلي، الذي كان يتمتع بنفوذ طاغٍ على الكونغرس الأميركي في العقدين الماضيين، لم يعد بالقوة ذاتها. هذا الكلام ليس جديدًا تمامًا على ترامب، إذ سبق أن حذر خلال الأشهر الماضية من أن صور الحرب في غزة تُحدث شرخًا في صورة إسرائيل داخل الغرب، لكن ما يميز هذه المرة أن التصريح جاء في صيغة إقرار بفقدان السيطرة.
سياق سياسي متغيّر
لكي نفهم مغزى هذه التصريحات، يجب أن نضعها في إطار التحولات داخل الولايات المتحدة:
تزايد المعارضة في الكونغرس: أصوات تقدمية داخل الحزب الديمقراطي تهاجم علنًا السياسات الإسرائيلية وتدعو إلى وقف الدعم العسكري غير المشروط.
تأثير الرأي العام الأميركي: استطلاعات رأي حديثة تشير إلى أن شريحة واسعة من الشباب والليبراليين باتت ترى إسرائيل كقوة احتلال لا كدولة «مدافعة عن نفسها».
الإعلام الرقمي: وسائل التواصل الاجتماعي ألغت احتكار اللوبي للرواية، فصور الأطفال والدمار تنتشر بسرعة تفوق أي حملات دعائية تقليدية.
ردود الفعل الإسرائيلية
في تل أبيب، أحدثت التصريحات صدمة صامتة.
صحيفة هآرتس كتبت أن كلام ترامب يعكس حقيقة يعرفها الجميع في الأوساط الدبلوماسية: إسرائيل تخسر يوميًا في معركة الشرعية.
محللون إسرائيليون رأوا أن الاعتراف من شخصية داعمة لإسرائيل مثل ترامب أخطر بكثير من انتقاد صادر عن سياسي ديمقراطي تقدمي، لأنه يكشف أن المشكلة ليست حزبية بل هيكلية.
بعض المسؤولين قللوا من أهمية التصريحات، معتبرين أنها «مزايدات انتخابية» من ترامب لكسب أصوات أميركية متململة من استمرار الحرب. لكن داخل الكواليس، أشارت تقارير إعلامية إلى وجود نقاش جدي حول كيفية إدارة «حرب السرديات» عالميًا.
الموقف العربي والإقليمي
في العالم العربي، استُقبل تصريح ترامب كـ«اعتراف من الداخل».
الإعلام العربي أبرز بشدة فكرة أن إسرائيل «تخسر حرب العلاقات العامة» وأن نفوذها في الكونغرس لم يعد كما كان.
محللون سياسيون عرب اعتبروا أن كلام ترامب يعزز السردية التي طالما رددتها الشعوب العربية: مهما بلغت قوة إسرائيل العسكرية، فإنها عاجزة عن إقناع العالم بعدالة حروبها.
الدبلوماسية العربية وجدت في هذه التصريحات فرصة للضغط في المحافل الدولية، خاصة مع تصاعد المطالب بوقف إطلاق النار وإدانة استهداف المدنيين.
المواقف الدولية
في أوروبا: تصريحات ترامب قُرئت كمؤشر إضافي على أن استمرار الحرب يحرج الحكومات الغربية أمام شعوبها. أحزاب المعارضة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا سارعت لاستخدام هذا التصريح كدليل على أن الدعم غير المشروط لإسرائيل لم يعد مبررًا حتى في نظر أقرب أصدقائها.
في الأمم المتحدة: مسؤولو حقوق الإنسان أكدوا أن كلام ترامب ينسجم مع ما يرونه يوميًا من تآكل صورة إسرائيل بسبب مشاهد النزوح والدمار.
في الإعلام الدولي: مقالات رأي في صحف مثل الغارديان وواشنطن بوست ربطت بين كلام ترامب والتحول في المزاج الشعبي العالمي، مؤكدة أن حرب غزة كشفت هشاشة الدعاية الإسرائيلية في العصر الرقمي.
آراء وتحليلات
1. الخبير الأميركي جوناثان ميلر:«ما قاله ترامب مهم لأنه يصدر عن رجل قدّم لإسرائيل أكثر مما قدّم أي رئيس آخر. إذا كان هو نفسه يتحدث عن تراجع اللوبي، فهذا يعكس واقعًا لا يمكن إنكاره. الكونغرس لم يعد كتلة صمّاء مؤيدة لإسرائيل».
2. الباحثة الإسرائيلية نوعا ليفي:«إسرائيل تكسب على الأرض، لكنها تخسر في الخطاب. معركة غزة الأخيرة أوضحت أن الرأي العام العالمي بات أكثر تعاطفًا مع الفلسطينيين. هذا أمر لم نكن نراه في التسعينيات أو بداية الألفية».
3. المحلل العربي طارق منصور:«التصريحات تكشف أن واشنطن لم تعد قادرة على تغطية الحرب بلا حسابات سياسية. حتى الجمهوريون المحافظون بدأوا يدركون أن دعم إسرائيل غير المشروط قد يصبح عبئًا انتخابيًا».
حرب الروايات معركة القرن
إسرائيل اعتادت أن تكسب معارك العلاقات العامة في الغرب لعقود. اللوبيات المؤيدة لها كانت تتحكم في سردية «الضحية المدافعة عن نفسها». لكن اليوم، في عصر الفيديو القصير والبث المباشر، لم يعد من الممكن إخفاء صور القصف والدمار.
حرب غزة الأخيرة أعادت تشكيل صورة إسرائيل من دولة «محاصرة» إلى دولة «معتدية»، وهذا التحول في السرد أخطر من أي معركة ميدانية، لأنه يهدد أساس شرعية التحالفات والدعم المالي والعسكري.
السيناريوهات المستقبلية
1. إعادة تموضع اللوبي الإسرائيلي: قد يعيد اللوبي حساباته بالتركيز على استراتيجيات جديدة مثل التمويل الرقمي واستهداف قطاعات انتخابية بعينها بدل الاعتماد الكلي على الكونغرس.
2. زيادة الضغط لوقف الحرب: إذا استمرت الصور المأساوية في غزة، قد تضطر واشنطن إلى ممارسة ضغط علني على تل أبيب لوقف العمليات، حفاظًا على صورتها العالمية.
3. صعود الرواية الفلسطينية: المنظمات الحقوقية وحركات التضامن تستفيد من الاعترافات الصادرة حتى من داعمين تقليديين لإسرائيل لتعزيز سردية «المظلومية الفلسطينية».
كيف يقرأ العرب هذه اللحظة؟
بالنسبة للشارع العربي، تصريحات ترامب ليست سوى تأكيد على ما كان معروفًا: إسرائيل قوة عسكرية لكنها تفتقر إلى الأخلاقية في حروبها. كثيرون يرون أن هذه اللحظة قد تمهّد لتغيّر أكبر في الموقف الغربي، وربما لفرض قيود على الدعم العسكري.
كما أن بعض النخب العربية فسّرت كلام ترامب كرسالة ضغط على حكومة نتنياهو نفسها، لإجبارها على تقديم تنازلات في ملف غزة أو في الترتيبات الإقليمية.
تصريحات ترامب تعكس تحوّلًا عميقًا في المشهد: لم تعد إسرائيل تملك احتكارًا للرواية كما في الماضي. صحيح أنها ما زالت مدعومة سياسيًا وعسكريًا، لكنها تواجه خسارة في «حرب السرديات» لا تقل خطورة عن أي خسارة عسكرية.
الرجل الذي قدّم لإسرائيل الكثير يقرّ اليوم بأنها تفقد أقوى أسلحتها: القدرة على إقناع العالم. وهذا بحد ذاته مؤشر على أن معركة الشرعية العالمية قد تكون هي التي تحدد مآلات الحرب المقبلة.