
حملة دعائية بدأت عام 2018.. وانتهت بفضيحة دبلوماسية في 2025
في تصعيد دبلوماسي غير مسبوق، استقبل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، يوم الأربعاء، نظيره الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا في البيت الأبيض، وسط أجواء متوترة بسبب قرار تنفيذي أصدره ترامب قبل أشهر، اتهم فيه حكومة جنوب إفريقيا بممارسة “إبادة جماعية عنصرية” ضد السكان البيض.
القرار الذي أثار موجة من الغضب الدولي، سمح بمنح صفة اللاجئ لعدد من البيض الأفريكانر، وعلّق المساعدات الأمريكية لجنوب إفريقيا، فضلًا عن طرد السفير الجنوب إفريقي من واشنطن.
البداية: حملة يمينية لتصوير البيض كضحايا
تعود جذور الأزمة إلى عام 2018، حين أطلقت منظمة يمينية تُدعى “أفريفوروم” حملة دعائية في الولايات المتحدة، زعمت فيها أن المزارعين البيض في جنوب إفريقيا يتعرضون للقتل والمصادرة العنصرية للأراضي.
الحملة وجدت صدى واسعًا داخل أوساط اليمين الأمريكي، وبلغت ذروتها في أغسطس من العام ذاته عندما غرّد ترامب بأنه طلب من وزارة الخارجية التحقيق في تلك الادعاءات، وهو ما منح هذه الرواية دفعة سياسية قوية.
تسييس الأزمة: من الداخل الجنوب إفريقي إلى البيت الأبيض
وفقًا لتقرير موسع نشره موقع The Intercept، فإن “أفريفوروم” لم تكن تتحرك فقط بدوافع داخلية، بل سعت لاستثمار حالة التوتر بين مكونات المجتمع الجنوب إفريقي، في ظل تصاعد دعوات اليسار لتوزيع الأراضي بشكل عادل، وازدياد نفوذ حزب “مقاتلو الحرية الاقتصادية” بقيادة جوليوس ماليما.
ورغم أن النخبة الأفريكانر لا تزال تسيطر على الاقتصاد، إلا أن فقدانها للسلطة السياسية منذ سقوط نظام الفصل العنصري جعلها تسعى إلى استعادة خطاب “الضحية”، مستفيدة من تعاطف بعض دوائر اليمين الأمريكي.
قرار ترامب: قبول اللاجئين البيض يثير السخرية
قرار ترامب المفاجئ بقبول البيض الأفريكانر كلاجئين أثار موجة من السخرية في جنوب إفريقيا، حيث أطلق ناشطون على مغادرتهم اسم “التيسك العظيم” – في تهكم على “المسيرة الكبرى” التاريخية التي قام بها المستوطنون الهولنديون.
المنظمة نفسها سارعَت إلى التراجع، فنفت في مؤتمر صحفي أنها طلبت اللجوء السياسي، مؤكدة أن البيض جزء لا يتجزأ من جنوب إفريقيا ولا يسعون لمغادرتها، في محاولة لاحتواء موجة الغضب الشعبي.
لكن الضرر كان قد وقع فعليًا، واعتبرت حكومة رامافوزا أن القرار الأمريكي مبني على “مزاعم باطلة تتجاهل السياق التاريخي لعدم المساواة”.
السخرية الشعبية: “أشياء فظيعة تحدث” في الفيلات الفاخرة
ردّ الشارع الجنوب إفريقي جاء ساخرًا وذكيًا، إذ اجتاحت مواقع التواصل موجة من المقاطع المصوّرة تحت عنوان “أشياء فظيعة تحدث”، تُظهر البيض في فيلات فارهة يحتسون النبيذ ويستمعون للموسيقى بينما يخدمهم موظفون سود، في محاكاة ساخرة لادعاءات الاضطهاد.
ورغم الطابع الكوميدي، إلا أن هذه الحملة الشعبية كشفت رفضًا مجتمعيًا واسعًا لرواية الإبادة المزعومة، والتي بدت لكثيرين كأداة ضغط سياسي أمريكي، وليست تعبيرًا عن قلق إنساني حقيقي.
خلفيات خفية: من لاهاي إلى ستارلينك
بحسب التقرير، فإن أزمة “الإبادة الجماعية” لم تكن بمعزل عن ملفات دولية أخرى. فجنوب إفريقيا كانت قد رفعت دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة في غزة، وهو ما أثار غضبًا أمريكيًا – خاصة من الجناح اليميني المؤيد لإسرائيل داخل إدارة ترامب.
كما تزامنت الأزمة مع محاولات رجل الأعمال إيلون ماسك – المولود في جنوب إفريقيا – لتوسيع خدمات شركته “ستارلينك”، والتي واجهت عقبات تنظيمية داخل بلاده بسبب عدم امتثالها لسياسات تمكين السود، ما أضاف بعدًا تجاريًا خفيًا للأزمة.
نهاية المشهد: مهزلة سياسية تكشف زيف الادعاءات
رغم الضغوط الأمريكية وسحب بعض الإجراءات لاحقًا، فإن حكومة رامافوزا تمسكت بموقفها، مؤكدة أن رواية “الإبادة العنصرية” لا تمت للواقع بصلة.
بل إن الأزمة تحوّلت إلى لحظة وحدة نادرة في جنوب إفريقيا، إذ رفضت غالبية الشعب سردية استعمارية معكوسة تسعى لإعادة إنتاج خطاب الهيمنة القديمة تحت غطاء إنساني زائف.