في مشهد يعكس استمرار توجه “أمريكا أولاً”، اتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارًا مثيرًا للجدل يقضي بوقف التمويل المخصص لبرامج الأمن والتدريب العسكري التي كانت تقدمها واشنطن لعدد من الدول الأوروبية المحاذية لروسيا، وفي مقدمتها دول البلطيق مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا.
خطوة تحمل أبعادًا سياسية وأمنية
القرار جاء ليؤكد رؤية ترامب القديمة بأن الولايات المتحدة تتحمل عبئًا ماليًا هائلًا في الدفاع عن أوروبا، بينما لا تفي بعض الدول بالتزاماتها المالية تجاه حلف شمال الأطلسي.
ووفقًا لمصادر أمريكية، فإن الإدارة تعتزم إنهاء العمل ببرامج تمويل مثل Section 333 ومبادرة Baltic Security، وهي برامج ساعدت لسنوات في تدريب القوات المحلية وتزويدها بالمعدات الحديثة وتعزيز قدراتها الدفاعية.
ضغوط على أوروبا لزيادة الإنفاق العسكري
ترامب لا يخفي منذ سنوات موقفه الحاد من الحلفاء الأوروبيين، إذ يطالبهم برفع إنفاقهم الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بدلًا من 2% فقط.
معتبرًا أن أمن القارة العجوز يجب أن يكون مسؤولية أبنائها بالدرجة الأولى. قرار وقف التمويل يترجم هذه القناعة عمليًا، ويضع الأوروبيين أمام تحدٍ مباشر: إما زيادة استثماراتهم العسكرية أو مواجهة فراغ أمني على حدود روسيا.
مخاوف من إضعاف الجبهة الشرقية للناتو
رغم أن البيت الأبيض أكد أن القرار تم بالتنسيق مع الأوروبيين، إلا أن أصواتًا داخل الكونغرس وخارجه عبّرت عن مخاوفها من أن يؤدي هذا التراجع في الدعم إلى إضعاف قدرة حلف الناتو على مواجهة التهديدات الروسية، خصوصًا في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وتصاعد التوترات بين موسكو والغرب.
بعض المحللين حذروا من أن هذه الخطوة قد تمنح الكرملين مساحة أكبر لتعزيز نفوذه على أطراف أوروبا الشرقية.
ردود فعل متباينة
في أوروبا، قوبل القرار بمزيج من القلق والبراغماتية. فبينما يرى البعض أنه يضعف الأمن الأوروبي في لحظة حساسة، يعتبر آخرون أنه قد يشكل فرصة لبناء سياسة دفاعية أوروبية أكثر استقلالًا عن واشنطن.
أما في الداخل الأمريكي، فقد دافع مؤيدو ترامب عن القرار باعتباره وسيلة لتخفيف الأعباء المالية وإعادة تركيز الموارد الأمريكية على أولويات أخرى، خاصة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
مستقبل غير واضح
بهذا القرار، يفتح ترامب فصلًا جديدًا في علاقة واشنطن بحلفائها الأوروبيين. وبينما ترى الإدارة أن هذه الخطوة تعزز مبدأ “تقاسم الأعباء”، يخشى آخرون أن تكون بداية تفكك تدريجي في الالتزام الأمريكي بأمن أوروبا.
وما بين هذه المواقف المتباينة، يبقى السؤال مطروحًا: هل ستتمكن أوروبا من سد الفراغ الدفاعي الذي يتركه الحليف الأمريكي، أم أن هذه الخطوة ستعيد رسم خريطة الأمن في القارة بأكملها؟
آراء الخبراء حول قرار ترامب
خبراء الأمن القومي الأمريكي
يرى بعض خبراء الأمن في واشنطن أن القرار يعكس تحوّلًا استراتيجيًا طويل الأمد في السياسة الأمريكية، حيث لم يعد الأمن الأوروبي أولوية قصوى كما كان بعد الحرب الباردة. ويؤكد هؤلاء أن الإدارة تركز بشكل أكبر على الصين والمحيط الهادئ، معتبرين أن أوروبا تملك القدرة الاقتصادية والعسكرية لحماية نفسها.
محللون أوروبيون
على الجانب الآخر، حذر محللون في أوروبا الشرقية من أن القرار قد يضعف الجبهة الشرقية للناتو، ما يمنح روسيا فرصة لتعزيز حضورها العسكري والسياسي في المنطقة. وأشاروا إلى أن الحلفاء الأوروبيين ما زالوا بحاجة للدعم الأمريكي خاصة في مجالات الدفاع السيبراني والاستخبارات.
خبراء الاقتصاد السياسي
يرى خبراء في الاقتصاد السياسي أن القرار قد يحمل بُعدًا ماليًا بحتًا، حيث تسعى إدارة ترامب لتخفيف الأعباء على الموازنة الفيدرالية، خصوصًا مع ارتفاع تكاليف الدفاع الأمريكي عالميًا. غير أن هؤلاء يحذرون من أن خفض التمويل قد تكون له كلفة أكبر على المدى البعيد إذا أدى إلى زعزعة استقرار أوروبا.
مراكز الدراسات الإستراتيجية
تذهب مراكز أبحاث غربية إلى أن الخطوة قد تكون جزءًا من سياسة الضغط على الأوروبيين لزيادة إنفاقهم الدفاعي. فهي ليست انسحابًا كاملًا من الالتزامات بقدر ما هي رسالة سياسية: “تحملوا مسؤولياتكم أو ستتركون وحدكم”.
خبراء العلاقات الدولية
يرى بعض أساتذة العلاقات الدولية أن هذا القرار قد يكون محفزًا لبروز مشروع “جيش أوروبي موحد”، وهو مطلب ظلّ مطروحًا داخل الاتحاد الأوروبي لسنوات. لكنهم يشككون في قدرة الأوروبيين على تجاوز الانقسامات السياسية والبيروقراطية لتشكيل قوة بديلة عن المظلة الأمريكية في المدى المنظور