في مشهد يفضح التناقض الصارخ بين الكلام والمواقف، وقفت تركيا أمام العالم لتُعلن رفضها التوقيع على خطة عقوبات دولية ضد إسرائيل، رغم كل خطاباتها النارية التي تهز المنابر! فبينما تتصدر أنقرة عناوين الصحف بـ”مواقفها الصلبة” دفاعاً عن فلسطين، تتراجع فجأة عندما يحين وقت تحويل الكلام إلى أفعال!
المعارضة التركية تشهر سكين الاتهامات: “أردوغان يخاف من ترامب!”، ووسائل التواصل تشتعل بسؤال واحد: هل باتت المصالح أهم من المبادئ؟ بينما تخرج الخارجية التركية لتنفي وتؤكد أنها “تطبق عقوبات أقسى”، لكن الأرقام والأحداث تكشف قصة أخرى!
فلماذا ترفض تركيا التوقيع رسمياً؟ وهل هي فعلاً تضغط على إسرائيل خلف الكواليس، أم أنها مجرد لعبة دبلوماسية لامتصاص غضب الشارع؟
الأسبوع الماضي، رفضت انقرة التوقيع على خطة العمل التي أعدتها “مجموعة لاهاي” لفرض عقوبات على الكيان الصهيونى، مما أثار موجة انتقادات حادة من المعارضة والوسط المحافظ في البلاد. واتهمت المعارضة الحكومة التركية بالتراجع عن مواقفها الصارمة تجاه إسرائيل، والاكتفاء بالخطاب السياسي دون إجراءات فعلية، خشية إثارة غضب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ورداً على هذه الانتقادات، أصدرت وزارة الخارجية التركية بيانين متتاليين في 19 و20 يوليو/تموز، نفت فيهما هذه المزاعم، مؤكدة أن تركيا اتخذت إجراءات ضد إسرائيل تفوق ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر بوغوتا الطارئ. كما أشارت إلى أن بعض بنود الخطة تتطلب تنسيقاً قانونياً ومؤسسياً قبل التوقيع النهائي.
ما هي “مجموعة لاهاي”؟
تشكلت “مجموعة لاهاي” في 31 يناير/كانون الثاني 2025، رداً على الدعوى القضائية التي قدمتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة “الإبادة الجماعية”. وتضم المجموعة تسع دول مؤسسة، هي: جنوب إفريقيا، ماليزيا، ناميبيا، كولومبيا، بوليفيا، تشيلي، السنغال، هندوراس، وبليز. وعقدت المجموعة اجتماعاً طارئاً في بوغوتا يومي 15 و16 يوليو/تموز، بحضور ممثلين عن 30 دولة، بينها تركيا.
ماذا تضمنت خطة العقوبات؟
بعد انتهاء المؤتمر، أُعلنت خطة عمل من ست نقاط لمواجهة إسرائيل، ووقّعت عليها 12 دولة فقط من أصل 30 مشاركة. وشملت الخطة إجراءات صارمة، منها:
1. حظر تام على تصدير الأسلحة والذخائر والوقود العسكري إلى إسرائيل.
2. منع دخول السفن المحملة بأسلحة إلى موانئ الدول الموقعة.
3. الغاء تسجيل السفن التي تنقل معدات عسكرية لإسرائيل.
4. مراجعة الاتفاقيات الثنائية مع إسرائيل وإلغاؤها إذا لزم الأمر.
5. الامتثال الكامل لقرارات العقوبات الدولية ضد إسرائيل.
6. تعديل القوانين المحلية لمحاكمة مرتكبي الجرائم في الأراضي الفلسطينية.
انتقادات حادة للحكومة التركية
تعرضت أنقرة لانتقادات لاذعة بسبب عدم توقيعها على الخطة، حيث اتهمها حزبا المعارضة الرئيسيان – “الشعب الجمهوري” و”الطريق الجديد” – بالخضوع للضغوط الأمريكية. وصرح إلهان أوزغيل، منسق السياسة الخارجية في حزب الشعب الجمهوري، بأن الرئيس رجب طيب أردوغان “يتجنب التصعيد مع إسرائيل حتى لا يُغضب ترامب”، في إشارة إلى رغبة أنقرة في تحسين علاقاتها مع واشنطن.
رد الخارجية التركية: اتهمونا ظلماً
نفت وزارة الخارجية التركية هذه الاتهامات، مؤكدة في بيانيها أن تركيا “تطبق بالفعل معظم بنود الخطة”، بل وتتجاوزها في بعض الجوانب. وأشارت إلى أنها قادت مبادرة في الأمم المتحدة لوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيل بدعم 52 دولة. كما أكدت أن لديها ضوابط صارمة لمنع تصدير الصلب والأسلحة إلى إسرائيل عبر وسطاء، رغم مزاعم استمرار التبادل التجاري بين البلدين.
إدانة دولية واسعة لإسرائيل
في سياق متصل، أدانت 25 دولة، بينها بريطانيا وفرنسا، في بيان مشترك صدر يوم 21 يوليو/تموز، “الممارسات غير الإنسانية” لإسرائيل في غزة، مستنكرةً مقتل مئات الفلسطينيين أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات الإنسانية. ومع ذلك، يبقى السؤال الأبرز: هل ستتحول هذه الإدانات إلى إجراءات فعلية، أم ستظل حبيسة الخطابات السياسية؟
وبينما تواصل تركيا تأكيد دعمها للقضية الفلسطينية، يبدو أن التوازنات السياسية والعلاقات الدولية تلعب دوراً حاسماً في تحديد مواقفها العملية. والجدل الدائر حول عدم توقيع أنقرة على عقوبات ضد إسرائيل يكشف عن تحديات السياسة الخارجية التركية بين الخطاب المبدئي والضغوط الجيوسياسية.
تحليل الخبراء لموقف تركيا من العقوبات على الكيان الصهيونى
يرى المحلل السياسي أحمد داود أوغلو أن موقف تركيا يعكس رهانات أنقرة الاستراتيجية على تحسين العلاقات مع واشنطن في ظل التحديات الاقتصادية التي تمر بها البلاد ويشير إلى أن عدم التوقيع على العقوبات يؤكد أولوية الملفات الاقتصادية على السياسية بالنسبة للحكومة التركية الحالية.
ومن جانبه يوضح الخبير في الشؤون الدولية محمد غوكهان أن تركيا تمارس سياسة متوازنة بين الضغط على إسرائيل والحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع الغرب، ويضيف أن أنقرة تدرك أن فرض عقوبات شاملة قد يعزل دبلوماسيتها ويحد من قدرتها على لعب دور وسيط.
بينما يعتبر المحلل السياسي نور الدين شكر أن الموقف التركي ينم عن ازدواجية واضحة، ويقول إن الشارع العربي لن يصدق الخطابات التركية بعد اليوم، مشيرا إلى أن تصدير الصلب لإسرائيل عبر دول ثالثة يناقض تماما الادعاءات الرسمية.
أما الخبيرة في العلاقات التركية الأمريكية دينا البكري فترى أن الضغوط الغربية على أنقرة كانت حاسمة في هذا القرار، وتشير إلى أن تركيا تخشى من إدراجها في قوائم العقوبات الأمريكية إذا ما فرضت إجراءات صارمة ضد إسرائيل.
ويؤكد أستاذ العلوم السياسية عمر جوشقون، أن الموقف التركي يعكس تراجعا في السياسة الخارجية النشطة التي اتبعتها أنقرة سابقا، ويضيف أن تركيا أصبحت تختار معاركها بعناية في ظل الأزمات الداخلية التي تواجهها.
ويختتم المحلل الاستراتيجي خالد الدقاق تحليله بالقول إن تركيا فقدت فرصة ذهبية لقيادة الجهد الدولي ضد إسرائيل وإن موقفها هذا سيقلل من نفوذها الإقليمي ويضعف مكانتها كمدافع عن القضية الفلسطينية.
