في تطور خطير يُنذر بمزيد من التوتر في المنطقة، شهدت محافظة السويداء السورية، ومعها العاصمة دمشق، خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، سلسلة غارات إسرائيلية وصفتها دمشق بـ”العدوان السافر” على السيادة الوطنية.
المواقف الدولية المتباينة
وفيما تباينت المواقف الدولية، جاءت ردود الأفعال العربية والدولية حادة في لهجتها، وسط دعوات متزايدة لوقف التصعيد وفتح تحقيقات مستقلة.
فقد أدانت الحكومة السورية بشدة الهجمات، مؤكدة أن الضربات استهدفت مواقع سيادية حساسة بينها القصر الجمهوري ومبنى الأركان العامة، ما أسفر عن أضرار مادية ووقوع ضحايا، دون أن تكشف السلطات عن أرقام دقيقة.
ودعت دمشق مجلس الأمن الدولي إلى عقد جلسة طارئة لمناقشة ما وصفته بـ”انتهاك خطير للمواثيق الدولية”، بينما شهدت السويداء اتفاقًا جديدًا لوقف إطلاق النار برعاية روسية بعد أيام دامية قُتل فيها المئات، وفق ما أعلنه المرصد السوري لحقوق الإنسان.
عربيًا، سارعت جامعة الدول العربية إلى إصدار بيان استنكار شديد اللهجة، مؤكدة أن ما حدث “خرق فاضح” لسيادة دولة عضو في المنظمة. كما أصدرت دول مجلس التعاون الخليجي، من بينها السعودية والإمارات وقطر، مواقف متطابقة تدين العدوا.
وتدعو لوقف فوري للغارات. وعبّرت مصر والأردن ولبنان عن رفضها الشديد للهجمات، محذّرة من أن استمرارها يهدد استقرار سوريا والمنطقة بأسرها.
قلق أممي
دوليًا، أعربت الأمم المتحدة عن “قلق بالغ” من تصاعد العنف، وأكدت المتحدثة باسم الأمين العام أنطونيو غوتيريش أنّ الاستهداف العشوائي لمناطق مدنية يعد خرقًا للقانون الإنساني. كما أدانت فرنسا والمملكة المتحدة الغارات، داعيتين إلى احترام سيادة سوريا وتجنب استهداف المدنيين.
وفي السياق ذاته، عبّر السيناتور الأمريكي ماركو روبيو عن قلقه من التأثير السلبي للضربات على جهود إعادة الاستقرار إلى الجنوب السوري، مطالبًا إسرائيل بتوخي أقصى درجات الحذر.
أما إيران فقد نددت بما أسمته “العدوان الإسرائيلي المتكرّر”، معتبرة أن تل أبيب تحاول خلط الأوراق في سوريا في ظل الأزمة الداخلية المتصاعدة فيها، بينما حمّلت تركيا إسرائيل مسؤولية التصعيد، معتبرة أن الغارات تُقوّض فرص الحل السياسي في سوريا.
ومع هذا التفاعل الدولي والإقليمي، يبقى المواطن السوري هو الخاسر الأكبر، حيث تتفاقم الأزمة الإنسانية في السويداء التي باتت تعاني من انقطاع في الخدمات الأساسية، ونقص حاد في الإمدادات الطبية والغذائية، وسط مخاوف من تجدد الاشتباكات رغم الاتفاق الهش لوقف إطلاق النار.
في ظل هذا المشهد المضطرب، تتجه الأنظار إلى جلسة مجلس الأمن المرتقبة، والتي قد تحدد المسار القادم إما نحو التهدئة أو نحو تصعيد قد تكون عواقبه وخيمة على سوريا والمنطقة برمتها.
يقول الدكتور فواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة لندن، إن “الضربات الإسرائيلية الأخيرة تعكس سياسة ممنهجة من حكومة بنيامين نتنياهو لتوسيع نطاق الردع الإسرائيلي في العمق السوري، خصوصًا في ظل تمدد النفوذ الإيراني في الجنوب السوري.”
ويضيف أن إسرائيل تسعى من خلال هذه الغارات إلى تقويض أي تمركز استراتيجي محتمل لحزب الله أو قوات إيرانية في المنطقة القريبة من الجولان المحتل.
وفي السياق ذاته، يعتبر المحلل العسكري اللبناني راغد الصالح أن “استهداف مواقع سيادية في دمشق، كالفرقة الرابعة ومبنى الأركان، يحمل دلالة رمزية تفيد بأن إسرائيل لم تعد تكتفي بضرب قواعد الحرس الثوري أو الأذرع الإيرانية، بل تتعمد توجيه رسائل مباشرة للنظام السوري نفسه، خصوصًا بعد الانفتاح العربي الأخير على دمشق.”
أما من زاوية التوقيت، فيرى الخبير الإسرائيلي أمير أورن أن نتنياهو يهدف من هذه العمليات إلى “إعادة ترتيب أولويات الرأي العام الإسرائيلي، عبر استحضار التهديد السوري-الإيراني، في محاولة لصرف الأنظار عن أزماته الداخلية، وخصوصًا الاحتجاجات المتصاعدة ضد سياساته القضائية والاقتصادية.”
ويضيف: “نتنياهو يدرك أن ضرباته في سوريا تحظى بتأييد داخلي شبه تام من المؤسسة الأمنية والرأي العام، وهو يستخدمها كأداة لترميم صورته السياسية.”
على صعيد آخر، يرى باحثون في “مركز كارنيغي للشرق الأوسط” أن هذه الغارات ترتبط بشكل غير مباشر بالصراع على النفوذ في جنوب سوريا، لا سيما في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، حيث تعيش إسرائيل حالة من القلق إزاء تنامي الحراك الشعبي هناك، وتخشى من أن تتحول المحافظة إلى ساحة جديدة لصراعات مسلحة على الحدود الشمالية.
من وراء الضربات؟
رغم أن إسرائيل لم تعلن رسميًا مسؤوليتها عن الغارات، كما هو معتاد، فإن طبيعة الأهداف المستهدفة والتوقيت السياسي يشيران بوضوح إلى ضلوعها المباشر. وتؤكد مصادر استخبارية غربية أن الضربات نُفذت باستخدام طائرات حربية من أجواء الجولان، استهدفت غرفة عمليات مشتركة للجيش السوري وحلفائه الإيرانيين.
من جهة أخرى، يرى الباحث السوري أنور البني، مدير “المركز السوري للدراسات القانونية”، أن هذه الضربات تمثل انتهاكًا للقانون الدولي وتهديدًا خطيرًا للمدنيين، مشيرًا إلى أن المجتمع الدولي بات يُظهر ازدواجية واضحة حين يتعلّق الأمر بالعمليات الإسرائيلية، التي تمرّ دون محاسبة أو مساءلة حقيقية.
خلاصة تحليلية
بينما تتراكم الإدانات وتُعقد الاجتماعات الطارئة في مجلس الأمن، تظل الرسائل الإسرائيلية واضحة: لا وجود آمن لحلفاء إيران في سوريا. لكن الأهم أن نتنياهو يستخدم الجبهة السورية كورقة ضغط مزدوجة؛ داخليًا لحماية نفوذه المهدد، وخارجيًا لتذكير واشنطن والعواصم العربية بوزن إسرائيل الأمني في معادلة المنطقة.
وبينما ينتظر السوريون هدوءًا لا يأتي، تستمر سماء بلادهم في استقبال صواريخ تحمل توقيع حسابات إقليمية ودولية تتقاطع فيها المصالح وتتباعد معها فرص السلام.