في تحول استراتيجي ينذر بتداعيات دولية واسعة، أعلنت روسيا في 5 أغسطس 2025 أنها لم تعد تلتزم بالقيود التي فرضتها طوعًا منذ سنوات على نشر الصواريخ الأرضية متوسطة وقصيرة المدى.
سباق التسلح
هذا القرار، الذي يأتي في وقت تشهد فيه العلاقات الروسية الغربية تصعيدًا متسارعًا، يشكل منعطفًا حادًا في سياسات الأمن والدفاع، ويعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة وسباق التسلح النووي.
البيان الصادر عن وزارة الخارجية الروسية أشار إلى أن ما سمّته “الوقف الطوعي” لم يعد مبررًا، بعد أن شرعت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في نشر منظومات إطلاق صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في مناطق قريبة من حدود روسيا، لا سيما في أوروبا الشرقية ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
وأكدت الوزارة أن موسكو ترى في هذه الخطوات تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وأنها باتت مضطرة إلى الرد بالمثل، بما يتماشى مع التوازن الاستراتيجي.
المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أعلن بوضوح أن “روسيا لم تعد ملزمة بأي قيود” بشأن هذا النوع من الصواريخ، وأنها ستتخذ قراراتها “وفقًا لما تفرضه ضروراتها الأمنية”.
من جهته، كان ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، أكثر صراحة وصرامة، حيث قال عبر منصة “إكس”: “قرار وزارة الخارجية نتيجة مباشرة لسياسات الناتو العدائية. على خصومنا أن يتوقعوا خطوات لاحقة، الواقع تغيّر وسنُغيّره أكثر.”
موقف سياسي واستراتيجي
هذه التصريحات جاءت لتؤكد أن القرار الروسي لم يكن مجرد مراجعة فنية لسياسات تسليح، بل هو موقف سياسي واستراتيجي مدروس يهدف إلى توجيه رسائل واضحة للغرب، مفادها أن موسكو مستعدة للردع، وربما للهجوم، إذا لزم الأمر.
خطوط حمراء
لكن هذه التطورات أثارت قلقًا واسعًا في الأوساط الأمنية والدبلوماسية الدولية. يقول ألكسندر غولتس، الخبير الروسي في شؤون التسلح، في تصريح لصحيفة The Moscow Times: “رفع هذا القيد يعني ببساطة أن سباق التسلح عاد بقوة. لم يعد هناك خطوط حمراء، وكل طرف سيبدأ في نشر أنظمة أكثر تطورًا وأسرع وأكثر تهديدًا.”
ويضيف غولتس أن “غياب آلية دولية للرقابة أو التفاوض يجعل الوضع قابلًا للانفجار في أي لحظة”.
من جهة أخرى، عبّر بروس بلاير، الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، عن مخاوفه من تقليص زمن الإنذار في حال وقوع هجوم صاروخي إلى أقل من 5 دقائق، وهو ما وصفه بـ”السيناريو الكارثي”.
وقال: “أي خطأ في الحساب أو خلل تقني يمكن أن يقود إلى إطلاق نووي غير مقصود، لا يمكن لأحد وقفه بعد لحظة الإطلاق.”
ويرى بعض المحللين أن هذه الخطوة الروسية لا تعني بالضرورة نشرًا فوريًا للصواريخ، بل تهدف إلى فرض معادلة ردع جديدة، خصوصًا في ظل تصاعد التوترات في شرق أوكرانيا، وزيادة الوجود العسكري للناتو في بولندا ودول البلطيق.
يقول ديمتري ترينين، الباحث الروسي المستقل: “ما تفعله روسيا الآن هو تحريك أدوات الضغط، لا أكثر، لكنها لن تتردد في استخدامها إن استشعرت خطرًا مباشرًا.”
التقديرات الغربية تشير إلى أن روسيا قد تبدأ بنشر صواريخ جديدة في بيلاروسيا أو في جيب كالينينغراد، ما سيشكل ضغطًا كبيرًا على أوروبا الوسطى والشرقية. وفي تقرير لوكالة رويترز، نقل عن مسؤولين في بروكسل قولهم إن “الناتو يتجه نحو مراجعة استراتيجياته الدفاعية، بما في ذلك إعادة تمركز صواريخ دفاعية في أوروبا الشرقية”.
وفي تحليل نشرته South China Morning Post، وُصف القرار الروسي بأنه “لحظة انهيار لما تبقى من معمار الحد من التسلح”، في إشارة إلى غياب أي معاهدة دولية تضبط انتشار هذا النوع من الأسلحة.
وفي الوقت الذي لم تصدر فيه الإدارة الأميركية ردًا رسميًا مباشرًا، أشارت مصادر في وزارة الدفاع الأميركية إلى أن واشنطن “تتابع الوضع عن كثب”، وأن “المشاورات جارية مع الحلفاء لتحديد الرد المناسب”، بحسب ما أفادت به رويترز.
وهكذا، يبدو أن العالم دخل مرحلة جديدة من الصراع الجيوسياسي، حيث تتآكل الاتفاقيات الدولية، وتتصاعد احتمالات المواجهة. ومع غياب الإرادة السياسية لإحياء معاهدات نزع السلاح أو تطوير أطر رقابة بديلة، فإن التوازن الهش الذي ظل قائمًا لعقود بات اليوم على المحك، بل على شفير الانهيار.
ردود الأفعال الدولية
أثار قرار روسيا برفع القيود الذاتية عن نشر الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى عاصفة من ردود الأفعال الدولية، تفاوتت بين الإدانة، والقلق، والدعوة لضبط النفس، في مشهد أعاد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة، حين كانت الصواريخ تُنشر على حدود أوروبا الشرقية والغربية في سباق تسلح مفتوح.
الولايات المتحدة، التي التزمت الحذر في تعليقاتها الأولى، اعتبرت القرار “غير مسؤول”، بحسب ما نقلته وكالة رويترز عن مصادر في البنتاغون. ورأت الإدارة الأميركية أن هذه الخطوة تمثل تهديدًا مباشرًا لاستقرار أوروبا وآسيا على حد سواء، مشيرة إلى أنها ستتشاور مع شركائها في حلف الناتو لتقييم الخيارات الدفاعية المتاحة.
وفي هذا السياق، صرّحت فيكتوريا نولاند، القائمة بأعمال مستشار الأمن القومي، بأن “روسيا تسعى لتوسيع هامش مناورتها النووية، لكننا مستعدون للرد عبر قنوات دبلوماسية وعسكرية متوازنة.”
أما في بروكسل، مقر حلف شمال الأطلسي، فقد جاء الرد أكثر حدة. فقد وصف الناتو القرار الروسي بأنه “استفزاز مقلق وتصعيد غير ضروري”،
مؤكداً أن الحلف سيعيد تقييم استراتيجيته الدفاعية في ضوء هذا التحول. وفي بيان رسمي، دعا الناتو موسكو إلى “العودة إلى الالتزام بالمعايير الدولية التي تضمن استقرار أوروبا”، لكنه أكد أن الحلف “لن يقف مكتوف الأيدي أمام تهديدات مباشرة لأمن أعضائه”.
في أوروبا الغربية، عبّرت ألمانيا عن قلقها العميق من القرار الروسي، حيث وصف المستشار الألماني أولاف شولتس التطور بأنه “عودة إلى منطق الحرب الباردة”.
وأضاف في تصريح نقلته دويتشه فيله: “هذا القرار لا يخدم السلام، بل يفتح الباب لسباق تسلح ستكون له عواقب على الجميع.” كما دعت ألمانيا موسكو إلى الشفافية والانخراط في مسار تفاوضي جديد مع الغرب.
فرنسا بدورها وصفت الخطوة بأنها “استفزاز لا يخدم الأمن الجماعي”، وأكدت على لسان وزارة خارجيتها أنها ستدفع باتجاه عقد جلسة طارئة في مجلس الأمن الدولي لمناقشة التداعيات المحتملة، محذّرة من انهيار تام لما تبقى من منظومة الحد من التسلح في العالم.
الصين، الحليف الاستراتيجي الأقرب لروسيا، اختارت موقفًا أكثر حيادية، وإن كان حذرًا. فقد دعا المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية جميع الأطراف إلى “ضبط النفس” و”تجنّب اتخاذ خطوات قد تؤدي إلى سباق تسلح جديد”،
مؤكدًا دعم بلاده لأي مسار تفاوضي يعيد الاستقرار إلى المشهد الدولي. الموقف الصيني، كما لاحظ مراقبون، يعكس حرص بكين على عدم الانجرار إلى مواجهة مفتوحة، رغم تحالفها السياسي مع موسكو.
وعلى الطرف الآخر من الطيف، عبّرت بيلاروسيا عن دعمها الصريح لقرار الكرملين، حيث أعلن الرئيس ألكسندر لوكاشينكو أن بلاده “مستعدة لاستضافة منظومات صاروخية روسية إذا دعت الحاجة”، في إشارة واضحة إلى إمكانية نقل الأسلحة الروسية إلى حدود الناتو، الأمر الذي زاد من مخاوف الدول الأوروبية المجاورة مثل بولندا وليتوانيا.
أما على مستوى الأمم المتحدة، فقد حذّر الأمين العام أنطونيو غوتيريش من أن “رفع روسيا للقيود الذاتية دون وجود اتفاق بديل يمثل خطوة مقلقة نحو سباق تسلح جديد”.
ودعا غوتيريش إلى استئناف محادثات دولية واسعة تشمل الولايات المتحدة وروسيا والصين وقوى أخرى، لإعادة بناء هيكلية أمنية شاملة تمنع الانزلاق إلى مواجهات عسكرية.
في المجمل، يبدو أن قرار موسكو لم يُقابل بأي تفهّم دولي، بل أثار موجة قلق حقيقية، خاصة في ظل غياب أي إطار قانوني دولي جديد لتنظيم انتشار هذه الصواريخ. وبينما تلوّح روسيا بخياراتها الاستراتيجية، تحذر العواصم الغربية من أن الاستمرار في هذا المسار سيضع العالم على حافة أزمة أمنية قد تتجاوز حدود أوروبا.
