في ظل تصاعد الصراع الحدودي بين كمبوديا وتايلاند، تواصلت الاشتباكات العنيفة على طول الحدود الشرقية بين البلدين لليوم الرابع على التوالي، موقعةً المزيد من القتلى والنازحين، رغم دعوات دولية متزايدة للتهدئة.
التصعيد الميداني والمآسي الإنسانية
شهدت الساعات الماضية استمرار تبادل القصف المدفعي والصاروخي بين الجيشين الكمبودي والتايلاندي، مع تأكيد الطرفين استخدام أسلحة ثقيلة وسط اتهامات متبادلة بالمسؤولية عن إشعال المواجهات.
وأفادت وكالة Reuters أن أكثر من 33 شخصاً لقوا حتفهم منذ اندلاع القتال، بينهم نساء وأطفال، بينما تجاوز عدد النازحين 200 ألف شخص فروا من المناطق الحدودية.
وفي محافظة “سيساكيت” التايلاندية، أُعلن عن مقتل أم وطفليها أثناء شراء طعام خفيف من سوق محلي بعد سقوط قذيفة كمبودية، في حادث أثار موجة من الحزن والغضب المحلي. ووفق ما نشرته The Guardian، قالت الجدة المفجوعة: “كانوا يشترون البسكويت… لقد ماتوا لأنهم كانوا جائعين”.
ضغوط دولية ومبادرات لوقف إطلاق النار
على صعيد دبلوماسي، لم تؤدِّ محاولات التهدئة بعد إلى نتائج ملموسة. ورغم تأكيد كمبوديا وقفًا فوريًا لإطلاق النار بعد محادثة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإن تايلاند ردّت بحذر، مطالبةً بضمانات كمبودية “للنوايا الصادقة”، وفق Washington Post.
من جهتها، أعلنت ماليزيا استضافة محادثات مباشرة بين الطرفين الإثنين المقبل، تحت رعاية رئيس الوزراء أنور إبراهيم، وبمشاركة مراقبين من رابطة آسيان ودعم من واشنطن وبكين. وأكدت وكالة AP News أن هذه المفاوضات تهدف إلى التوصل لصيغة هدنة دائمة.
السياق السياسي العميق
يرى مراقبون أن النزاع ليس مجرد خلاف حدودي، بل يتداخل مع صراعات داخلية معقّدة. وبحسب تحليل نشرته Al Jazeera، فإن المواجهة تعكس صراعًا على النفوذ الإقليمي، إذ تميل تايلاند إلى الولايات المتحدة، بينما تُعد كمبوديا حليفًا وثيقًا للصين، وسط تنافس جيوسياسي متصاعد في منطقة جنوب شرق آسيا.
في السياق ذاته، تحدث تقرير Politico عن أن الصراع يحمل طابعًا شخصيًا بين القيادتين: عائلة شيناواترا التي تدعم حكومة تايلاند، وعائلة هون في كمبوديا، التي تخشى فقدان السيطرة السياسية على خلفية التوترات.
المبادرات المدنية والإغاثية
في ظل ضعف الاستجابة الرسمية، برزت جهود إنسانية محلية لافتة. ففي تايلاند، تحوّل أحد الأديرة البوذية إلى مأوى للنازحين، بينما جمعت مجموعات تطوعية الأغذية والمياه للمحتاجين.
أما في كمبوديا، فأقام الأهالي نقاط توزيع غذائية، وسط محاولات رجال دين من مختلف الديانات لتهدئة النفوس، بحسب تقرير خاص من AP.
ففي خضم التصعيد العسكري المتواصل بين كمبوديا وتايلاند، تتباين الآراء والتحليلات حول أسبابه وخلفياته، وتُجمع معظمها على أن النزاع الحدودي الحالي يتجاوز مجرد تبادل نيران، ليكشف عن صراع أعمق على النفوذ الإقليمي والسلطة الداخلية.
في تايلاند، عبّر العديد من النشطاء عن قلقهم من استخدام الحكومة الحالية لهذا الصراع كأداة لتعزيز سلطتها في الداخل، وسط دعوات متزايدة لفرض حالة الطوارئ في المناطق الحدودية. وكتب الناشط المعروف سونجساك جايان: “المدنيون يموتون، والنخبة العسكرية تتفاوض على المكاسب”.
هذه الانتقادات تترافق مع تنامي الغضب الشعبي بعد مقتل أسرة كاملة إثر سقوط قذيفة كمبودية على سوق شعبي في محافظة سيساكيت – حادثة أثارت تعاطفًا واسعًا في الشارع التايلاندي، ووصفتها صحيفة The Guardian بأنها “أكثر اللحظات حزنًا في الأزمة حتى الآن”.
على الجانب الكمبودي، صدرت دعوات لوقف إطلاق النار من شخصيات دينية بارزة، حيث صرّح رئيس دير “سامرونغ” البوذي في تصريحات لوكالة AP، قائلاً: “كل من يطلق النار هو خاسر، والحرب لا تبني الأمم، بل تحطمها”.
وفي الوقت نفسه، تظاهر عشرات المدنيين في العاصمة بنوم بنه، مطالبين بوقف العمليات العسكرية والعودة إلى الحوار.
دوليًا، جاء الموقف الأميركي متداخلًا مع حسابات سياسية داخلية. فقد تبنّى الرئيس دونالد ترامب دور الوسيط ودفع الطرفين إلى إعلان نوايا مبدئية تجاه وقف النار.
وهو ما فسّره مراقبون بأنه محاولة لإعادة تقديم نفسه كرجل الصفقات الدولية قبيل الانتخابات الأميركية القادمة. وأشار تحليل لمعهد بروكينغز إلى أن “تدخل ترامب سياسي بامتياز، ويعتمد على نتائج هشة في ظل غياب آلية متابعة دولية رسمية”.
من جهة أخرى، تسعى ماليزيا إلى إنقاذ الموقف عبر مبادرة ديبلوماسية دعت فيها الطرفين إلى محادثات رسمية في كوالالمبور، بإشراف رئيس الوزراء أنور إبراهيم وبمشاركة وفود من رابطة آسيان.
وفي هذا السياق، قال البروفيسور لي كونغ، المتخصص في شؤون جنوب شرق آسيا من جامعة سنغافورة، لقناة الجزيرة: “هذه الحرب الصغيرة تختصر صراعًا كبيرًا بين الصين والولايات المتحدة… تايلاند تزداد قربًا من واشنطن، بينما تظل كمبوديا أقرب إلى بكين”.
الصين، رغم صمتها الظاهري، مارست بحسب تقارير دبلوماسية ضغوطًا غير معلنة على الحكومة الكمبودية لضبط النفس، خشية أن تتأثر مصالحها الاقتصادية المتزايدة في المنطقة.
وذكرت صحيفة South China Morning Post أن بكين لا ترغب في توسع النزاع ليهدد استثماراتها في البنية التحتية الكمبودية، وخاصة تلك المرتبطة بمبادرة “الحزام والطريق”.
أمام هذه التفاعلات، أعربت الأمم المتحدة عن قلقها البالغ من تسارع موجات النزوح، ووصفت المفوضة الأممية لشؤون اللاجئين ما يجري بأنه “كارثة إنسانية في طور التشكل، إن لم تتوقف المدافع فورًا”.
وقد دعت إلى فتح ممرات آمنة وإرسال مساعدات عاجلة إلى المناطق المتضررة على طرفي الحدود.
وفي المحصلة، تتقاطع مآسي المدنيين مع تعقيدات السياسة، وتبقى الأنظار معلقة على اجتماع كوالالمبور المرتقب، حيث قد يُرسم أول خيط لحل سياسي… أو بداية فصل جديد من التصعيد.