في مكتبة التراث العربي، تلوح مجلدات “تهذيب اللغة” كالأطواد الشامخة، حاملة بين دفتيها عبق الصحراء وصوت القوافل ووشوشة الخيام في ليالي البادية. هو ليس مجرد معجم، بل رحلة في دروب العربية الأصيلة، قادها إمام من أئمة اللغة، أبو منصور الأزهري الهروي، الذي طاف البوادي وأقام بين الأعراب، فجمع من أفواههم ما بقي على فطرة اللسان العربي قبل أن تمسه أيدي التحريف أو الاندثار.
المؤلف ورحلته الفريدة
وُلد الأزهري في هراة بخراسان، وعرف منذ صغره ولعًا بالعلوم، غير أن القدر ساقه إلى تجربة فريدة حين وقع أسيرًا لقبيلة من الأعراب لسنوات، فخالطهم وسمع لغتهم في بيئتها النقية، فكان هذا الاحتكاك الحي هو المنجم الذي استخرج منه كنوز معجمه الخالد.
مضمون الكتاب وفكرته
سعى الأزهري في “تهذيب اللغة” إلى أن يجمع ما تفرّق من ألفاظ العرب في بطون المعاجم والكتب، ويهذّبها من التصحيف، ويوثقها بالشواهد الشعرية والقرآنية والحديثية.
وقد بنى معجمه على ترتيب الحروف وفق المخارج الصوتية، مبتدئًا بالهمزة ومنتهيًا بالياء، في أسلوب يجمع بين الدقة العلمية والنفَس الموسوعي.
أبرز الشواهد الشعرية واللغوية
في مادة “عَفَر” يذكر قول الشاعر في وصف الفارس:
وما ذاكَ إلا أنني كنتُ راكبًا / جوَادًا به عَفْرٌ من الريحِ مُذعِنُ
دلالة على سرعة الجواد حتى كأنه يغترف الريح.
في مادة “ثَرَى” يورد قول امرئ القيس:
كأن ثراها إذا ما اشتهت ندى الليلِ دمعُ الغَمامِ الهَطولِ
إشارة إلى رقة التربة بعد المطر.
في مادة “قَسْوَرَة” – الأسد – يذكر من القرآن الكريم: {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51]، ويضيف شاهدًا شعريًا:
يُقابلُهُ القَسْوَرِيُّ إذا دنا ويَعدِلُ عن لَيثٍ إذا ما تَقدَّما
في مادة “هَضِيم” – الرقيقة الخصر – يستشهد ببيت:
هضيمُ الكَشحينِ تَجُرُّ ذيولَها / كأنَّ مُشيتها على الماءِ تسري
أثر “تهذيب اللغة” في المعاجم اللاحقة
لم يكن “تهذيب اللغة” مجرد إضافة إلى المعاجم السابقة، بل كان مدرسة قائمة بذاتها، أفاد منها ابن سيده في “المحكم والمحيط الأعظم”، واقتبس منها ابن منظور في “لسان العرب” حتى غدت مادته أحد أعمدة هذا المعجم الشهير. كما أسهم في رسم المنهج الذي اتبعته المعاجم العربية الكبرى في الجمع والترتيب والاستشهاد بالشعر، وظل مصدرًا لا غنى عنه للباحثين حتى العصور الحديثة.
القيمة العلمية
جمع بين تراث الخليل بن أحمد وابن دريد ومشاهداته الشخصية.
وثيقة حية للهجات العرب في أواخر العصر الجاهلي وصدر الإسلام.
مرجع أساس في الدراسات المعجمية والنقد اللغوي.
تهذيب اللغة
يبقى “تهذيب اللغة” أكثر من معجم؛ إنه سجل أنفاس العرب، ومرآة لبيئتهم وألسنتهم وشعرهم. ومن خلاله نشهد كيف كان اللغويون الأوائل فرسانًا للغة، يجوبون القفار طلبًا للكلمة الصافية كما يجوب الرحالة الأرض بحثًا عن الماء العذب.
إنه سفرٌ لا يشيخ، يمدنا اليوم – كما مدّ أسلافنا – بعُدة لغوية وثقافية تحفظ هوية الضاد وسط ضجيج العولمة، وتؤكد أن اللغة التي صمدت أمام رياح القرون، قادرة على البقاء ما دامت هناك عقول تحفظها وقلوب تهواها.