الأدب كصرخة في وجه التاريخ
ثلاثية «غرناطة» ليست فقط ملحمة أندلسية من زمن الانهيار، بل هي عملٌ أدبي شديد الإنسانية، نسجته الكاتبة المصرية رضوى عاشور بعين المؤرخة، وقلب الأم، وروح المناضلة.
وهي ثلاثية تروي بحسٍ روائي ملتهب القرن الأخير في حياة العرب بالأندلس، من خلال تتبُّع مصائر عائلة أندلسية تمثل آلاف العائلات التي طُحنت بين الاستسلام والمحو والتمسّك بالجذور.
مكونات الثلاثية: من الورّاق إلى الرحيل
الجزء الأول – غرناطة (1994):
يبدأ من عام سقوط المدينة (1492)، حيث نتابع شخصية «أبو جعفر الوراق»، شيخ الوراقين الذين يحاولون النجاة بمعرفتهم وتراثهم من سكاكين التنصير والاختناق الثقافي.
الجزء الثاني – مريمة (1995):
يتناول حياة «مريمة»، الفتاة التي تمثل الحلم المؤجل والأنوثة المقاومة، في ظل انقراض الهوية.
الجزء الثالث – الرحيل (1995):
خاتمة حزينة لثلاثة أجيال، حيث تشتد قبضة القهر، وتتساقط آخر أوراق الأمل، ويبدأ العرب الرحيل الجماعي من أرضهم التي لم تعد أرضهم.
بناء روائي يتجاوز السرد التقليدي
1- البنية الزمنية:
تمتد الرواية على مدار قرن من الزمان، لكن دون إغراق في التواريخ. كل شخصية تمثّل حلقة من سلسلة هوية تُنسَف، فتشعر أن الزمن يتجمد حيناً، وينفلت حيناً آخر.
2- اللغة والأسلوب:
لغة رضوى عاشور تنهل من التراث العربي الكلاسيكي، لكن بأسلوب حداثي، سلس، عذب، مفعم بالحزن النبيل.
لا تتكلف في الوصف، بل تسكب الجمال في التفاصيل اليومية: الطعام، الزي، الجلسات، الطقوس، وتفاصيل البيوت والأزقة.
3- تقنية التناوب السردي:
الراوي لا يظل واحداً، بل يتنقل بين أصوات مختلفة: الجد، الحفيدة، المرأة، الفتى… كأن الرواية تحاكي تعددية الصوت العربي نفسه، الذي أراد المحتل أن يسكته.
رمزية الشخصيات: كل فرد أمة
أبو جعفر الوراق:
رمز الثقافة الإسلامية، والوعي الذي قاوم حتى اللحظة الأخيرة. مثقف لا يحمل سيفًا، بل يحمل ورقًا وأقلامًا، ويُقتل لأن الكتب “تحرّض على العصيان”.
مريمة:
جوهرة الثلاثية. الفتاة التي تكبر وسط العتمة، وتحاول أن تمنح النور للأطفال. تمثل المرأة العربية التي تتعرض للقهر، لكنها ترفض الانكسار.
حسن وسعد:
يمثلان التناقض العربي: حسن يحاول النجاة في الظل، وسعد يرفض الحياة في الظلام، ويدفع الثمن.
القضايا الكبرى في الثلاثية
1- المحو الثقافي والديني:
أهم ما تبرزه الثلاثية هو كيف تصبح اللغة جريمة، والدين تهمة، والهوية عارًا. حين يُمنع الناس من الحديث بالعربية، ومن أداء شعائرهم، ويُفرض عليهم التعميد القسري.. تصبح الحياة “خيانة صامتة”.
2- الخذلان السياسي:
تشير الرواية ضمنيًا إلى خيانة الحكام الذين سلّموا الأندلس بسلام، ثم تقاعسوا عن حماية المسلمين من بطش الإسبان. وتعيد السؤال الذي يلاحقنا حتى اليوم:
“هل ضاعت غرناطة لأننا لم نقاتل، أم لأننا خُذِلنا من داخلنا؟”
3- المقاومة اليومية:
مقاومة رضوى ليست بالسلاح، بل بالحفاظ على الصلاة سرًا، بتعليم الأبناء القرآن خفية، بإخفاء كتاب في أرضٍ رطبة كي لا يُحرق، وبحبّ امرأة لرجل محرّم عليها لأنه “مسلم سابق”.
البُعد السياسي والإسقاط المعاصر
ثلاثية غرناطة تُقرأ اليوم كأنها كتبت عن فلسطين، أو العراق، أو أي مكان يُطارد فيه العربي على اسمه وصلاته.
تقول رضوى ضمنيًا: “ما جرى في الأندلس ليس ماضياً، بل نبوءة تتكرّر في كل رقعة تُسلب منا فيها الأرض والهوية”.
اقتباسات خالدة
“لماذا يصرون على محونا؟ لأننا ما زلنا نُصلّي، ونتحدث لغتنا، ونحلم بعودة الهلال فوق المآذن.”
“كانوا يريدون أن ننساهم… ونحن لا نملك إلا أن نتذكرهم.”
“سقطت غرناطة، نعم. لكننا لم نسقط معها.”
سيرة الكاتبة:
د. رضوى عاشور (26 مايو 1946 – 30 نوفمبر 2014) قاصة وروائية وناقدة أدبية وأستاذة جامعية مصرية، وهي زوجة الأديب الفلسطيني مريد البرغوثي، ووالدة الشاعر تميم البرغوثي.
تميز مشروعها الأدبي، في شقه الإبداعي، بتيمات التحرر الوطني والإنساني، إضافة للرواية التاريخية. تراوحت أعمالها النقدية، المنشورة بالعربية والإنجليزية، بين الإنتاج النظري والأعمال المرتبطة بتجارب أدبية معينة. تُرجمت بعض أعمالها الإبداعية إلى الإنجليزية والإسبانية والإيطالية والإندونيسية.
.رئيسة لقسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب بجامعة عين شمس، ثم الجامعة الأمريكية بالقاهرة
ومن أشهر أعمالها:
- حَجَر دافئ (رواية)،
- الطنطورية (رواية)
- أيام طالبة مصرية في أمريكا
- خديجة وسوسن (رواية)،
- رأيت النخل (مجموعة قصصية)،
- سراج (رواية)،
- ثلاثية غرناطة (رواية)
أهمية الثلاثية
تُدرّس اليوم في الجامعات بوصفها نموذجًا للرواية التاريخية المقاومة.
ترجمت إلى عدة لغات (إنجليزية، فرنسية، إيطالية…).
تعتبر من أبرز الأعمال النسوية والإنسانية في الأدب العربي الحديث.
«ثلاثية غرناطة» ليست فقط رثاء لحضارة ضاعت، بل درسٌ في كيف يمكن للأدب أن يوثّق الألم، ويُقاوم النسيان، ويمنح المهزومين صوتًا خالدًا.