في الثاني من سبتمبر الجاري، أحيت عدة مدن ليبية الذكرى الـ56 لثورة “الفاتح من سبتمبر 1969″، الثورة التي قادها العقيد معمر القذافي لينهي حكم الملك إدريس السنوسي ويفرض نظامًا استمر أكثر من أربعة عقود.
الاحتفالات التي شهدتها الساحات والشوارع، برفع صور القذافي وترديد شعارات من حقبته، أثارت جدلًا واسعًا داخل ليبيا وخارجها: هل هي مجرد حنين لعصر مضى؟ أم أنها تعبير صريح عن خيبة الأمل من الواقع السياسي والاقتصادي الذي يعيشه الليبيون منذ سقوط نظامه في عام 2011؟
مشهد غير مسبوق منذ 2011
على غير العادة، بدت بعض المدن الليبية هذا العام أكثر جرأة في الاحتفاء بذكرى القذافي، إذ انتشرت تسجيلات مصورة على منصات التواصل الاجتماعي تُظهر مئات المشاركين وهم يرفعون الرايات الخضراء ويرددون هتافات من قبيل “الله ومعمر وليبيا وبس”.
هذه الصور، التي أعادت إلى الأذهان سنوات حكم القذافي، لم تكن مجرد استعادة رمزية للماضي، بل جاءت كرسالة واضحة تعكس حضور القذافي في الذاكرة الشعبية، خصوصًا في الجنوب والوسط، حيث ما تزال بعض القبائل تحمل ولاءً تقليديًا لعائلته.
خلفية: ثورة الفاتح وصعود القذافي
في الأول من سبتمبر 1969، قاد مجموعة من الضباط الأحرار انقلابًا عسكريًا ضد الملك إدريس السنوسي، كان أبرزهم الملازم الشاب معمر القذافي، الذي سرعان ما أصبح الحاكم المطلق للبلاد.
رفع القذافي شعارات التحرر العربي ومناهضة الاستعمار، وأطلق مشروعًا سياسيًا أطلق عليه اسم “النظرية العالمية الثالثة”، التي وثّقها في “الكتاب الأخضر”، واعتبرها بديلًا عن الرأسمالية والاشتراكية.
ورغم أن ليبيا في عهد القذافي عرفت مشاريع ضخمة مثل النهر الصناعي العظيم وتوسيع قطاعي الصحة والتعليم، إلا أن حكمه ارتبط أيضًا بالقمع السياسي، وتقييد الحريات، وتصفية الخصوم، إضافة إلى العزلة الدولية التي عاشتها ليبيا لعقود بفعل سياساته الخارجية المثيرة للجدل.
سقوط النظام والفوضى المستمرة
مع اندلاع ثورات “الربيع العربي” عام 2011، كانت ليبيا على موعد مع فصل جديد من تاريخها. فقد اندلعت احتجاجات شعبية واسعة سرعان ما تحولت إلى نزاع مسلح بدعم من حلف الناتو، وانتهت بمقتل القذافي في أكتوبر 2011 بمدينة سرت.
غير أن سقوط النظام لم يؤدِ إلى بناء دولة ديمقراطية مستقرة كما كان يأمل كثيرون. بل دخلت ليبيا في دوامة من الانقسام السياسي والحروب الأهلية، بين حكومتين متنافستين في الشرق والغرب، وصعود جماعات مسلحة تسيطر على مناطق واسعة.
النتيجة: اقتصاد منهار، خدمات متدهورة، أزمة كهرباء ومياه مزمنة، وانسداد سياسي لم تفلح جهود الأمم المتحدة والمبادرات الإقليمية في حله حتى اليوم.
الحنين إلى عهد القذافي.. قراءة في الظاهرة
الاحتفالات بذكرى “الفاتح” لم تمر مرور الكرام؛ إذ رأى مراقبون أن الظاهرة تعكس حالة حنين جماعي إلى سنوات “الدولة المركزية القوية”، حيث كانت السلطة بيد واحدة والقرارات تُتخذ من أعلى الهرم.
فبالنسبة لأنصار القذافي، كانت ليبيا في عهده أكثر أمنًا واستقرارًا، رغم القيود السياسية. وهم يستشهدون بقدرة النظام آنذاك على توفير السكن المجاني والتعليم والعلاج، فضلًا عن مشاريع البنية التحتية الكبرى.
لكن خصومه يرون أن هذه الاحتفالات محاولة لـ”إعادة تدوير الماضي”، مؤكدين أن سنوات القذافي كانت مليئة بالقمع، وأن ما تمر به ليبيا اليوم هو أحد نتائج تركته الثقيلة، من غياب المؤسسات إلى عسكرة السياسة.
دلالات سياسية في لحظة حرجة
المشهد يتجاوز الطابع الرمزي ليعكس استقطابًا سياسيًا ومجتمعيًا متجددًا. ففي الوقت الذي تحاول فيه ليبيا السير نحو مصالحة وطنية، يطلّ إرث القذافي كعامل مثير للانقسام.
أنصار النظام السابق، الذين وجدوا في هذه الذكرى فرصة لرفع صوتهم، قد يسعون لاستثمار الحنين الشعبي في عودة سياسية عبر واجهات جديدة، خصوصًا مع صعود بعض أفراد عائلة القذافي إلى المشهد، مثل سيف الإسلام القذافي، الذي أعلن أكثر من مرة نيته الترشح للرئاسة.
أما معارضو القذافي، فيعتبرون أن مثل هذه الاحتفالات تهدد مسار المصالحة وتعيد فتح جروح الماضي، بدلًا من التركيز على بناء مستقبل مشترك.
القذافي في الذاكرة الجماعية
رغم مرور 14 عامًا على سقوط النظام، يبقى معمر القذافي حاضرًا بقوة في المخيال الليبي. فهو بالنسبة للبعض “بطل قومي” تحدى الغرب وسعى لتوحيد إفريقيا، وبالنسبة لآخرين “ديكتاتور” قاد البلاد إلى عزلة وصراعات داخلية.
وما بين هذين الموقفين المتناقضين، تكمن أزمة ليبيا الراهنة: بلد لم يحسم بعد تقييمه لماضيه، ولا يزال يتأرجح بين استدعاء صورة “القائد الأب” والبحث عن بديل سياسي عصري قادر على توحيد المؤسسات وإنهاء الفوضى.
إلى أين يتجه المشهد؟
عودة الاحتفالات بثورة الفاتح بهذا الزخم قد تكون مؤشرًا على فشل النخب السياسية الحالية في إقناع الشارع بأنها بديل أفضل. فمع استمرار انقسام السلطة بين الشرق والغرب، وتعثر إجراء الانتخابات، وانهيار الخدمات، يجد جزء من الشارع الليبي نفسه أكثر انجذابًا لفكرة “ليبيا القوية والموحدة” التي يربطها بعهد القذافي.
لكن في المقابل، قد تفتح هذه الظاهرة الباب أمام استقطاب حاد، إذ يرى كثيرون أن إعادة تمجيد القذافي يعني تجاهل معاناة آلاف الضحايا والانتهاكات التي وقعت في حقبة حكمه.
الذكرى الـ56 لثورة الفاتح لم تكن مجرد مناسبة عابرة، بل مثلت اختبارًا جديدًا لذاكرة الليبيين وانقسامهم حول تاريخهم الحديث. فهي من جهة كشفت عن حنين واضح لعصر القذافي وسط الإحباط من الواقع الراهن، ومن جهة أخرى أبرزت خطورة استدعاء الماضي في وقت تسعى فيه البلاد جاهدة إلى بناء مستقبل يتجاوز الانقسامات.
ما بين الحنين والرفض، الماضي والمستقبل، الاستقرار والقمع، تبقى ليبيا عالقة في جدل لم يُحسم بعد: كيف يمكنها التصالح مع تاريخها، دون أن تصبح أسيرة له؟
