في العام 1985 كانت نيران الحرب العراقية الإيرانية الرهيبة مستعرة، والجيش العراقي بقيادة صدام حسين متفوق على الجيش الإيراني والمنظمات الداعمة له، كانت إيران وقتها في حاجة ماسة لأسلحة متطورة مضادة للدبابات ومضادات جوية لكي تتصدى للجيش العراقي، وتكسر صلابة موقف الرئيس صدام حسين، وكانت العلاقات “الرسمية” مقطوعة بين إيران والولايات المتحدة، خاصة بعد احتجاز الطلبة الإيرانيين الموالين للخميني ديبلوماسيين أمريكيين، أمريكا تصنف إيران دولة إرهابية، وإيران تملأ شوارعها ومظاهراتها ومساجدها شعارات “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل”، لكن المصالح تتصالح كما يقولون.
كانت أمريكا تريد أن تمول منظمة “كونترا” المسلحة في نيكاراغوا ضد الحكومة اليسارية القائمة خوفا من انتشار التيار اليساري في أمريكا الجنوبية، لكن الكونجرس يحظر ذلك كما يحظر إرسال السلاح إلى إيران التي يصنفها دولة إرهابية وراعية للإرهاب، فجرت تفاهمات سرية بين واشنطن وطهران وتل أبيب، وحوارات استمرت عدة أسابيع، انتهت باجتماع في باريس حضره جورج بوش الأب، الذي كان يشغل وقتها منصب نائب الرئيس ريغان، ورئيس الوزراء الإيراني أبو الحسن بني صدر في العاصمة الفرنسية باريس، ومندوب المخابرات الإسرائيلية الخارجية “موساد” آري بن ميناشيا، وانتهى الاتفاق على صفقة تقوم بموجبها أمريكا بإرسال شحنات أسلحة متطورة لإيران لمساعدتها على مواجهة الجيش العراقي، وتتولى إسرائيل شحن تلك الأسلحة من مطاراتها إلى طهران مباشرة، على أن تقوم إيران بإطلاق سراح بعض الأمريكيين المختطفين في لبنان، ويتم تسليم أموال الصفقة إلى منظمة “كونترا” النيكاراجوية.
بموجب الصفقة قامت إسرائيل في البداية بنقل 96 صاروخا من طراز “تاو” يوم 20 أغسطس/آب 1985 إلى إيران، وكانت وقتها من أقوى وأحدث الصواريخ المضادة للمدرعات، انطلقت شحنة السلاح من إسرائيل إلى إيران على متن طائرة من نوع “دي سي 8”. ويوم 14 سبتمبر/أيلول من نفس العام أرسلت إسرائيل شحنة إضافية تضمنت 408 من نفس الصواريخ، تلتها شحنة حجمها 18 صاروخا مضادا للطائرات من نوع “هوك” انطلاقا من البرتغال وإسرائيل يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني، وتبعها ألف صاروخ “تاو” على دفعتين يومي 17 و27 فبراير/شباط 1986، ويوم 24 مايو /أيار 1986، أرسلت إسرائيل 508 صواريخ “تاو” و240 من قطع الغيار لصواريخ “هوك” إضافة إلى خمسمئة صاروخ “تاو” يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام.
وكشفت مجريات المعركة أن شحنات السلاح الإسرائيلية ساعدت الجيش الإيراني على تعديل كفة المعارك ضد الجيش العراقي، واستعادت إيران زمام المبادرة في ساحة الميدان بعد طول ارتباك وتخبط في بدايات الحرب.
تحقيقات صحفية وقتها فجرت الفضيحة، ثم تصاعدت أحداثها، وحدثت ضجة كبرى في الولايات المتحدة، وأصبحت حديث الإعلام الأمريكي، وعرفت باسم “فضيحة إيران جيت” أو “إيران/ كونترا”، وعقدت لها محاكمات في الكونجرس حاول فيها الرئيس الأمريكي التظاهر بأنه لم يكن يعلم بالصفقة وأنها جرت من وراء ظهره، لكن محاكمات الكونجرس انتهت إلى إدانة إدارة ريجان بالتورط في العملية، كما انتقلت المحاكمات إلى القضاء الأمريكي الذي واجه عددا من الأعضاء الكبار في إدارة الرئيس ريجا، وانتهت المحاكمات بإدانة العديد من أعضاء مجلس الأمن القومي الأمريكي، وحكم على بعضهم بالسجن سنتين مع وقف التنفيذ، كما انعقدت محاكمة في محكمة العدل الدولية بطلب من نيكاراجوا انتهت إلى إدانة الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من ظلال تلك الفضيحة، وإحراجها للإدارة الأمريكية، إلا أنها لم توقف التنسيق السري بين واشنطن وطهران، والذي تبلور في أكبر حدثين عرفتهما المنطقة بعد ذلك، وهما الغزو الأمريكي لأفغانستان، والغزو الأمريكي للعراق، والذي انتهى باحتلال البلدين، حيث ساهمت إيران بقوة في دعم الاحتلال الأمريكي وتقديم خدمات كبيرة للجيش الأمريكي لتسهيل السيطرة على كابول وبغداد، اللذين كانا كل منهما يمثل تحديا استراتيجيا للنفوذ الإيراني في المنطقة، كما قال محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني الأسبق في مؤتمر عقد بالإمارات: “لولا إيران لما سقطت كابل وبغداد بهذه السهولة”.