مقالات

جمال سلطان يكتب: الإسلاميون المصريون في تركيا يتطلعون لمسار جديد

الهجرة الاضطرارية التي فرضت على التيار الإسلامي المصري خلال العشرية الماضية، بعد انقلاب يوليو 2013، لم تكن محنة كلها، بل ربما كانت في بعض جوانبها منحة، على مستوى الوعي وتطوره، وعلى مستوى الخبرات الجديدة، بفعل الصدمات والانكسارات، وبفعل كسر حواجز نفسية وعقلية كانت تعوق انطلاق العقل النقدي داخل الحركات الإسلامية، وأيضا بفعل دروس النجاح المفاجئ الذي حققته تجارب أخرى مثل التجربة السورية.

الهجرات الكثيفة، وخاصة في الحاضنة التركية، حيث يوجد أكبر عدد من أبناء التيار الإسلامي المصري الذين غادروا البلاد بحثا عن الأمن والأمان، أدخلتهم في تجربة جديدة كليا، ولا سابق لها في تاريخ الحركة الإسلامية منذ نشأتها، حيث تختلف عن أي تجارب أخرى عاشها التيار الإسلامي داخل مصر، سواء في نجاحاته أو انكساراته، لأن الإسلاميين اعتادوا العمل ـ في الداخل ـ في أجواء من السرية والعمل التنظيمي المغلق البعيد عن الشفافية لاعتبارات أمنية بالمقام الأساس، وكانت كثير من الأفكار النقدية أو محاولات البحث عن مراجعات فكرية تقابل بالقهر أو الإقصاء تحت ذريعة أن الظروف الأمنية لا تسمح، والتنظيم ملاحق، والأمن يرصد،… إلى آخر تلك الحجج، في التجربة التركية تبخرت كل تلك الحجج، وأصبح الجميع أمام استحقاق العمل في النور، وبشفافية كاملة، فلا عذر لأحد بالتحجج من الملاحقات الأمنية، ولا معنى لأن يتحصن أحدهم بدعوى ضرورات السرية، وهذا ما جعل “المرحلة التركية” أكثر قابلية للثورة الفكرية داخل التيار الإسلامي، وتقدم العقل النقدي، حيث برزت تناقضات لم تكن لتظهر لو لم تخرج الحركات إلى النور وفضاء الحرية والمناخ السياسي الصحي والطبيعي، وأصبح نشطاء التيار أكثر جرأة على المكاشفة، وعلى النقد، وعلى المراجعة، صحيح أنه كان من نتائجها المفهومة وقوع بعض الانقسامات، لكن الأهم في تلك النتائج هي بروز معالم فكر سياسي واجتماعي وإنساني جديد كليا، سيكون حاسما في صياغة مستقبل هذا التيار.

فهذه الأجواء الجديدة، من حرية الحركة وحرية الرأي والأمان الكامل وفي بيئة سياسية وحزبية تركية حرة وناضجة يرونها أمام أعينهم ويعيشون يومياتها بأنفسهم، هيأت أمام التيار الإسلامي فرصة البوح، والتفكير الجدي في وضع خريطة طريق جديدة للعمل العام، أكثر استفادة من أخطائها، وأكثر استفادة من خبرات الآخرين أيضا، ربما لم تكتمل خرائط أو خريطة ذلك الطريق، لكن الجهود بدأت تتواتر بحثا عن ملامح هذا الطريق، وأصبحنا نطالع على فترات متقاربة، رؤى جديدة، يقدمها مجموعة من الإسلاميين، وكلها تحمل جديدا، وكلها تمثل اختيارا مختلفا عما سبق، على الأقل من الناحية النظرية حتى الآن، فهناك مناقشات صعبة وحساسة تدور داخل جماعة الإخوان، وظروف الانقسام تعوق ظهور نتائجها حاليا، حيث يترصد كل طرف للطرف الآخر للتشنيع على أي طرح جريء يقدمه، وهناك أفكار أكثر جرأة تقدمها الجماعة الإسلامية، وهناك تجمع جديد تحت اسم “ميدان” يقول أنه سيعلن عن خارطة طريق جديدة، وأثق أن هناك آخرين سيفعلون مثل ذلك في المستقبل القريب، وكلها جهود ستتقابل في النهاية، وربما يتمكن الحوار الناضج فيما بينها من إخراج مشروع سياسي واجتماعي وإنساني جديد للتيار الإسلامي مختلف كليا عما سبق منذ نشأته، أكثر نضجا وأكثر قدرة على ترويض الواقع.

مركز “حريات” للدراسات السياسية والاستراتيجية ـ مقره في إسطنبول ـ المقرب من الجماعة الإسلامية المصرية، وحزب البناء والتنمية، ينشط هذه الأيام في تقديم أفكار ومراجعات تضيء معالم طريق جديد يدعو الإسلاميين للانتباه إليه، أشرت لبعضها من قبل، وقد اطلعت على ورقة جديدة نشرها المركز، يقدم من خلالها رؤية مهمة لما يعتبره أولويات التيار الإسلامي في المرحلة الجديدة، من وجهة نظره، وهي المرحلة التي يعتبرها المركز ـ حسب خطابه ـ “مفصلية” في تاريخ التيار الإسلامي.

ويمكن تلخيص الورقة المهمة في النقاط التالية:

أولى أولويات التيار الإسلامي تتمثل في العودة إلى المجتمع لا التنظيم، يجب أن يتحول التيار إلى قوة مجتمعية فاعلة، تُنتج البدائل في الاقتصاد والتعليم والقيم، وتبني الثقة مع الناس لا التراتبية فوقهم.

من الأولويات، خروج الإسلاميين من أسر الخطاب الوعظي المجرد، والشعارات العامة، حيث يلزمه تقديم رؤية واقعية تُقنع الشعوب وتُلهب خيالها.

من الأولويات، توسيع المجال الإسلامي المشترك، وتجاوز الانغلاق التنظيمي والطائفي، لم يعد ممكنًا أن يبقى التيار الإسلامي مقسمًا إلى جماعات مغلقة تتنازع الشرعية والتمثيل، بل المطلوب بناء فضاء تشاوري مفتوح، تتفاعل فيه المدارس الإسلامية المختلفة.

من الأولويات، أولوية إقامة التحالفات الذكية مع الآخرين من خارج التيار، فالاكتفاء بالخطاب الجماهيري دون أدوات تغيير على الأرض لم يعد كافيًا، وعلى التيار الإسلامي أن يتحالف مع قوى الأمة الحيّة لبناء جبهة تغيير واسعة لا تُختزل في كيان أو قيادة.

من الأولويات أيضا، التموضع الذكي في النظام العالمي الجديد وبناء شراكات مع قوى مؤيدة للتحرر والعدل ومناهضة للاستكبار، بما يُخرج الإسلاميين من العزلة الدولية التي طالما فُرضت عليهم.

وعلى رأس الأولويات، حسب ورقة المركز، مراجعة شاملة لتجربة الإسلاميين الماضية، بجرأة وصدق، حيث لا إصلاح بدون مكاشفة، ولا تقدم بدون نقد ذاتي، يجب أن تُفتح الملفات المسكوت عنها، من أخطاء الحكم إلى الفشل في إدارة التحالفات.

هذا كلام مهم، كلام جديد، ورؤى جريئة، لم نألفها في الحركات الإسلامية وأحزابها وجماعاتها، واضح أن الخبرات والتحديات والصدمات، وربما الانكسارات، ولدت خبرات جديدة، أرجو أن تأخذ مكانها اللائق في وعي الإسلاميين وحواراتهم، ومن ثم مشروعهم الإصلاحي المأمول، فلا شك أن التيار الإسلامي في العالم العربي تحديدا ـ سواء كنت متفقا معه أو مختلفا ـ ما زال هو التيار الشعبي الأكثر حضورا، وانتشارا، والأكثر إزعاجا للنظم السلطوية، والأكثر قدرة على تغيير بوصلة مجتمعاته، وتغيير واقع حياة الناس المترع ظلما وبؤسا، والدفع بهم نحو مستقبل أفضل.

جمال سلطان

باحث وكاتب صحفي مصري.. رئيس تحرير صحيفة المصريون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى