مقالات

‏جمال سلطان يكتب: النخب السياسية المصرية تعيد إنتاج أخطائها وخطاياها

تعليقات النخب السياسية والفكرية وحتى الأدبية في مصر على أحداث سوريا الأخيرة، خاصة بعد تفجر أحداث الساحل السوري ومحاولة الانقلاب الدموية التي فجرها فلول نظام الأسد، والجدل الذي دار حول الجرائم التي وقعت هناك، سواء ضد قوى الأمن أو ضد مدنيين، أعاد التذكير بما جرى في تحولات ثورة يناير، خاصة في العامين 2012/2013، والتي انتهت إلى ضياع الثورة، وركوب العسكر من جديد على السلطة، وضياع جميع منجزات الثورة، بل وضياع حتى الهامش الذي كان قد تحقق في نهاية عصر مبارك، أي أن الديمقراطية والحريات العامة والعيش والحرية والكرامة الإنسانية عادوا إلى الصفر، بل إلى ما تحت الصفر، بعد نجاح الانقلاب العسكري الذي قاده قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح السيسي.

فور تفجر أحداث الساحل السوري، نشطت حسابات شخصيات مصرية بارزة على مواقع التواصل، تهاجم بعنف الرئيس السوري أحمد الشرع، وتندد بما تسميه «مجازر» ترتكب في حق المدنيين، ونسبوها بالطبع إلى القوات الحكومية، وهذه الاتهامات كانت مقدمة سريعة لكي ينفجر هجومهم على الإسلاميين في كل مكان، ويفيضوا في الكلام عن خطورة الإسلاميين وظلامية الإسلاميين وضرورة إبعاد الإسلاميين عن السياسة، وعدم السماح للإسلاميين بالوصول إلى السلطة، وأن الإسلاميين والإرهاب قرينان، ولا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في حكم الإسلاميين، إلى آخر هذه العبارات التي تشيطن الإسلاميين في كل مكان، وتجردهم من أي بعد إنساني أو حق سياسي، وتصورهم كوحوش آدمية من آكلي لحوم البشر أو تتار القرن أو “فايكنج” الشمال الأوربي المتوحش.

تشعر أن الصدور كانت ممتلئة بالكراهية والغضب، وتنتظر فرصة للتنفيس عن مكبوتاتها، حتى وجدوها في الأحداث السورية فانفجر بركان الشتائم والاتهامات والتشنيعات واستخدام أقسى الألفاظ، بعضها بذيء، للتشهير بالإسلاميين في كل مكان، وبعضهم أعاد الحديث عما حدث في مصر لكي يستدل بما جرى في سوريا على شيطنة الإسلاميين في مصر وتحميلهم مسؤولية ما جرى من ضياع الثورة، ودخول البلاد في النفق المظلم الذي لا يعرف أحد كيف تخرج منه ولا متى.

وعلى الرغم من أن صورة ما حدث كانت ما زالت غامضة، والاتهامات متبادلة بين الطرفين، قوات الحكومة والانقلابيين ومؤيديهم، إلا أنهم سارعوا إلى تبني الاتهامات ضد طرف واحد لأنهم إسلاميون، وعلى الرغم من استبانة كثافة التضليل فيما نشر والفيديوهات المزورة، والبيانات المختلقة، إلا أنهم استمروا، وعلى الرغم من وجود مئات القتلى في صفوف قوات الأمن، بما يعني أن هناك معركة حقيقية وليس مواجهات مع مدنيين، إلا أنهم لم يتوقفوا ليستبينوا الحقيقة، كان واضحا أنهم يحاولون توظيف هذا الضجيج الإعلامي لتسويق رؤيتهم الكارهة للإسلاميين والمعبأة بالكراهية للإسلاميين.

ما جرى محبط جدا، لأنه يعني أن لا أحد استفاد شيئا من دروس كارثة 2013 في مصر، لا أحد يريد أن يعترف بأخطائه، لا أحد يريد أن يعترف بأنه أساء التقدير السياسي فأضاع المشروع الديمقراطي، ولا نريد أن نقول: خان المشروع الديمقراطي، الذي بشرت به ثورة يناير، وأتت بمحمد مرسي كأول رئيس جمهورية مدني منتخب انتخابات شفافة منذ تأسيس الجمهورية في مصر، لا أحد يريد الاعتراف بأن التعصب الأيديولوجي بل التطرف الأيديولوجي، الذي عبأ النفوس بالكراهية للإسلاميين، كان سببا في ضياع كل شيء، وانهيار البيت على كل ساكنيه، لا أحد يريد أن يعترف بأن مشكلته مع محمد مرسي لم يكن خطؤه في إصدار إعلان دستوري غير موفق، ولا أنه قرر تغيير النائب العام الفاسد -نائب مبارك- بطريقة سيئة، وهي أخطاء رئاسية لا شك فيها، لكن كان هناك ألف طريقة لإبطالها أو إجباره على الرجوع عنها، وقد فعل، ولكن ليس من بين هذه الطرق -سياسيا وأخلاقيا- أن نجبره على الاستقالة بعد أقل من عام على انتخابه، لا أحد يريد أن يعترف بخطئه التاريخي في الثقة بالعسكر، والنفخ في مصداقيتهم عن حماية الديمقراطية، بل وتسويق صورتهم كمنقذين لمصر في الإعلام الخارجي، لا أحد يريد أن يعترف بأن ضيق الأفق وسيطرة الكراهية الأيديولوجية على القلوب والعقول دفعتهم للتعاون مع العسكر لإسقاط أول جمهورية ديمقراطية في تاريخ مصر.

والأسوأ من كل ذلك، أن ما كتب ونشر مؤخرا، مستغلا أحداث سوريا، حيث نجحت الثورة بقيادة إسلامية في طرد الطاغية المجرم وعصابته وبترهم من جذورهم، وأصبح هناك رئيس جمهورية إسلامي، ولو لفترة انتقالية، أعاد ذلك إحياء ميراث الكراهية لدى النخب المدنية المصرية، يسار ويمين وقوميين وعلمانيين من كل لون، وكشف عن أن جوهر الشر ما زال كامنا في الصدور، وأن الخلل ما زال معششا في العقول، وأنه لو أتيحت فرصة جديدة في مصر فسوف يضيعونها إذا برز فيها أي سياسي له جذور إسلامية، سواء إخواني أو غير إخواني، وسواء كان له قبول شعبي أو ليس له قبول، ما زال قطاع واسع من النخب الليبرالية واليسارية والقومية يرى أن الديمقراطية ينبغي حصرها في رجالهم ورموزهم وتيارهم، ولا يجوز أن تتاح لأي إسلامي.

ولما كانت جميع التغيرات الكبرى في المنطقة، يقودها الإسلاميون، من أفغانستان لباكستان لسوريا للبنان لمصر للأردن لليمن لليبيا لتونس للجزائر للمغرب، بما يعني أن أي مشروع للتغيير أو الإصلاح، ناهيك عن الثورة، يخاصم الإسلاميين أو يحاول إقصاءهم، هو وصفة للفشل المؤكد من حيث الأصل والمبتدأ، وخدمة نموذجية للعسكر أو الديكتاتوريات بمختلف أنواعها، فإن فرصة ميلاد ديمقراطية حقيقة، أو حكم الشعب، في مصر أو أي جمهورية عربية ستظل حلما ضائعا، أو معلقا، حتى يؤمن الجميع بأن الديمقراطية والعدالة والكرامة والحقوق، لا يمكن أن تولد في ظل الإقصاء أو الكراهية، لا يمكن أن تولد إلا في جو سياسي عقلاني يدرك أن الوطن يسع الجميع، وأن الشعب هو السيد وهو الحكم، وعلى الجميع احترام قرار الشعب واختياره، ومن أراد أن يغير حكما أو حاكما فعليه أن يلجأ للشعب، عبر الأدوات القانونية المنظمة لتداول السلطة، وعلى رأسها صندوق الانتخاب.

باختصار، وبالعقلانية السياسية البراجماتية المحض، وبعيدا عن أي تحيزات، لا إصلاح بدون الإسلاميين، لا ثورة بدون الإسلاميين، لا إنقاذ بدون الإسلاميين، لا تغيير بدون الإسلاميين، لا أمل في خلاص سياسي بدون الإسلاميين، وأي شخص أو تيار سياسي أو اجتماعي يعمل على القطيعة مع الإسلاميين فضلا عن إقصائهم فهو داعم للديكتاتورية والفساد -سواء بقصد أو بغباء سياسي-، وأي ادعاءات للإصلاح أو الثورة تستبطن العداء للإسلاميين فهي محض ملهاة وإضاعة وقت وخداع للنفس.

لا مفر أمام أي عمل وطني جاد، من البحث عن صيغة عملية للشراكة الوطنية، بين تيارات الوطن جميعا، إسلاميين وغيرهم، وقدرة ناضجة على إدارة الخلاف السياسي واستيعابه للوصول إلى قواسم مشتركة يحترمها الجميع، وتوثيق ضمانات سياسية ثم دستورية، تحمي الأهداف المشتركة للجميع، في وطن حر، يحترم التعددية، والتداول السلمي للسلطة، وترسيخ الحريات العامة وحمايتها دستوريا ومؤسسيا، ودعم المجتمع المدني وحمايته واستقلالية نشاطه، والالتزام بمخرجات صندوق الانتخاب المعبر عن إرادة الشعب بكل شفافية، وضمان حرية تكوين الأحزاب، وحرية الصحافة والإعلام، وقبل كل ذلك التوافق على معالم مرحلة انتقالية كافية، تدار بتوافق وطني، لفترة تسمح بإعادة تأهيل الدولة ومؤسساتها وقوانينها لمشروع ديمقراطي تنافسي آمن ومستقر.

جمال سلطان

باحث وكاتب صحفي مصري.. رئيس تحرير صحيفة المصريون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights