بحوث ودراسات

جمال سلطان يكتب: سيد قطب الذي شغل الدنيا وما زال

تقريبا لا يخلو عام -خاصة في ذكرى رحيله- من جدل متجدد عن المفكر الراحل الكبير سيد قطب، المشهور بـ«صاحب الظلال» نسبة إلى كتابه الأكبر والأهم «في ظلال القرآن»، وهو تأملات في آيات القرآن لم يسبق إليه أحد بمثلها، بالمزيج الأدبي والروحي والفلسفي والتاريخي الذي استخدمه لكي يجعل قارئه يعيش في أجواء روحانية منعزلة تقريبا عما حوله، وهذا سر انتشار هذا الكتاب.

سيد قطب شخصية أدبية بالأساس، مرهفة الحس، شاعر، وأديب، وكاتب سلس العبارة، متدفق المشاعر، محلق بالمعاني والتأملات، ينشر دواوين الشعر، والروايات، وكتب في مناهج النقد الأدبي، كان هكذا خاصة في الفترة التي انتمى فيها للتوجه الليبرالي، وكان في طريق صديقه ورفيق دربه عباس محمود العقاد، وهي التي ظهرت فيها كتاباته في النقد الأدبي، واهتمامه الملحوظ بالروائي الشاب وقتها «نجيب محفوظ» الذي قدمه سيد للقراء والحياة الأدبية، واعترف نجيب بأن سيد كان صاحب فضل عليه في بدايات حياته، وأيضا هي المرحلة التي شهدت كتاباته عن تحرر المرأة والحياة العصرية ونحو ذلك، ثم في المرحلة التي شهدت تحوله إلى الروح المحافظة والحس العروبي واقترابه من الاخوان المسلمين، وكذلك صداقته مع قادة حركات التحرر الوطني في العالم العربي وقتها، مثل الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة الذي كان لاجئا في مصر، ويخطب في المناسبات مع سيد قطب، ثم في مرحلته الأخيرة كمنخرط في صفوف التيار الإسلامي المنظم والحركي والسياسي، والذي كانت تمثله آنذاك جماعة الإخوان المسلمين.

في المرحلة التي شهدت تحوله إلى الفكر الإسلامي، نشر سيد قطب عددا من الدراسات والكتب التي كانت تمثل فتحا في مجالها، مثل كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وكذلك كتابه المدهش «التصوير الفني في القرآن الكريم» الذي أتصور أنه لم يسبق إلى موضوعه أحد من قبل، وحتى ذلك الحين كان سيد قطب ملهما لكثير من أبناء الجيل الجديد في مصر، الباحث عن الحرية، حتى أن أكثر من ضابط من قادة حركة يوليو 1952، كان يذكر أنه كان يقرأ كتب سيد قطب، وكان بعضهم يجتمع في بيته في حلوان، حتى إذا نجح انقلاب يوليو احتفل به الضباط مرارا، وشعر بأن «أبناءه» هم الذين يقودون مصر في المرحلة الجديدة، وتفاءل بهم كثيرا، ودافع عنهم بحرارة، وندد بأي معارضة شعبية أو حزبية تقف في طريقهم، وكأن أكثر أخطائه في تلك السنوات تأييده لإعدام اثنين من عمال كفر الدوار الذين تظاهروا ضد القيادة العسكرية الجديدة طلبا لتصحيح أوضاع وحقوق العمال.

في تلك المرحلة بدأ سيد ينشر الفصول الأولى من كتابه الكبير «في ظلال القرآن»، بطبيعة الحال، لم تستمر تلك المرحلة طويلا، لأن العسكر بطبيعتهم لا يقبلون شراكة من أي قوة مدنية، هم فقط يريدون موظفين وخدما ومروجين لمشروعهم، وطبيعة سيد قطب لا تناسب ذلك، بل بدأ يصطدم بهم بعد أن خاب أمله فيهم، كما أن إعلانه الانضمام إلى جماعة الإخوان وعمله في صحيفتهم أقلق عبد الناصر من توجهاته الجديدة، وباختصار، كان اعتقاله بعد أحداث 1954 تطور طبيعي ومفهوم، ودخل السجن قرابة عشر سنوات، وخرج في العام 1964، غير أنه استطاع في فترة سجنه أن ينجز الكثير من فصول كتابه الكبير «في ظلال القرآن» ويعيد صياغة بعض ما سبق نشره منه، ويهربه للخارج، بل تمت طباعة الكتاب وهو في السجن، وقد نقل عن أحد قادة ما يسمى «مجلس قيادة الثورة» أنه كان يقتني نسخة منه، كما طبع كتابه الشهير «معالم في الطريق».

فترة السجن، على يد تلاميذه ومريديه الضباط الذين حلم معهم بمستقبل أفضل لمصر، كانت شديدة الوقع على نفسية الأديب المرهف الحس، كما كان توجه عبد الناصر إلى المعسكر الشيوعي بعد ذلك، واتخاذه إجراءات عنيفة في المجتمع المصري، من مصادرات وتأميم وإلغاء للأحزاب والجمعيات الأهلية ومصادرة الصحف وفتح السجون والمعتقلات على مصراعيها لكل مخالفيه وكل القوى السياسية من اليمين واليسار بلا استثناء، ألقت بظلالها على نفسيته، وألقت في روعه أن هذه الحقبة السوداء تمثل خطرا ماحقا على الإسلام والمجتمع الإسلامي، وأنه على البقية الباقية المتمسكة بدينها والقابضة عليه كالجمر في التيار الإسلامي أن تتحوصل، وتنعزل، لحماية قيمها، وأن تتسامى على مرارات الواقع ولا تنهزم أمام سطوته.

وهذه هي المرحلة التي بدأت تنتشر فيها أفكاره عن العزلة الشعورية، وعن جاهلية المجتمع، وعن الفئة المؤمنة، وعن استعلاء الإيمان، وكلها رؤى منطقية لأصحاب العقائد والقيم التي تعيش حال حصار أو تهديد وجودي، لكن مشكلتها عند سيد قطب أنها كانت تنظيرية، ومعزولة عن الواقع الفعلي في مصر، بحكم غيابه عشر سنوات في السجن، لا يعرف شيئا عن الخارج إلا ما ينقله له أسر المعتقلين أو ما يتسرب له من أخبار التعذيب المروع للإسلاميين، وانتشار الخوف في المجتمع، والصورة السوداوية للواقع السياسي والاجتماعي في مصر وقتها، ولو قدر لسيد قطب أيامها أن يكون خارج مصر أو حتى داخل مصر لكن خارج السجن ويتجول في ربوعها ويخالط الحياة الطبيعية لاختلف الأمر، وقلت مخاوفه، ولوجد سياقات بديلة لإصلاح المجتمع ومقاومة استبداد العسكر وانحرافهم بالسلطة والمجتمع، ولغابت الكثير من أفكاره عن العزلة واستعلاء الإيمان ونحو ذلك من أفكار يمكن أن تصلح للمجتمعات المسلمة في جنوب الاتحاد السوفيتي أو الصين أو الأقليات الدينية المسلمة بشكل عام المضطهدة في أنحاء كثيرة من العالم، لكنها لم تكن تصلح للمجتمع المصري أو العربي بشكل عام، لتجذر الروح الإيمانية فيه رغم ما يعتريها من بعض الانحراف.

والحقيقة أن غالبية من قرأوا لسيد قطب أدركوا ذلك، صراحة أو ضمنا، تعايشوا مع كتبه كدفقة إيمان ونقاء روحي عالية، طاقة روحية تشحن قلوبهم أمام صعوبات الحياة، لكن الغالبية من قرائه لم يخاصموا المجتمع ولا انتهجوا العنف، وأزعم أن جميع الحركات الجهادية التي ظهرت طوال نصف القرن الأخير لم تكن مرجعيتها سيد قطب، بل كانت مرجعيتها سلفية بحتة، وكتب لشيخ الإسلام ابن تيمية تأولوها بشكل متعسف، وتطرف في تأويل وفهم نصوص القرآن والسنة أيضا، وأي دارس للمنهج الفكري عند dا عش أو الkا عدة ـ مثلا ـ يدرك ذلك بسهولة، لذلك محاولة تحميل فكر سيد قطب مسؤولية انتشار العنف فيها تعسف وتكلف وتحامل بعيد جدا عن الإنصاف والموضوعية.

والحقيقة أن انتشار الحركات المسلحة العنيفة والمتطرفة في التيار الإسلامي كان مصدرها عالم الواقع وليس عالم الأفكار، مناخات القمع والدموية التي تستخدمها نظم الحكم للمعارضين، والقتل خارج القانون، وإعدام المئات بشرطة قلم واحدة، وتكميم الأفواه، ونشر الخوف، ورمي الآلاف في السجون بلا تهمة ولا قضية، والتعذيب المروع، واحتقار كرامة الإنسان وآدميته، ونشر الفقر والمعاناة، وانسداد أي أفق للأمل في مستقبل أرشد أو أعدل، كل ذلك هو المناخ الحقيقي لانتشار العنف الديني والتطرف، وليس فكر سيد قطب أو غيره، ومحاولة إلصاق انتشار العنف بالأفكار هو نزعة غير أخلاقية لتبرئة نظم القمع والطغيان والتجبر من المسؤولية.

كان سيد قطب كاتبا كبيرا ومفكرا مرموقا في العالم الإسلامي، وعندما حكمت عليه المحكمة العسكرية برئاسة الفريق الدجوي بالإعدام، تدخل عدد من قادة العالم الإسلامي يلتمسون من عبد الناصر عدم تنفيذ الحكم، منهم الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، صديق سيد، غير أن خوف العسكر من تأثيره في المجتمع دفعهم إلى قتله، وهي الواقعة التي أحدثت تحولا كبيرا في حضور وتأثير وانتشار كتب سيد قطب وأفكاره، وحولته إلى أسطورة معمدة بالدم، لتثبت بذلك مقولته المأثورة «إن كلماتنا ستبقى عرائس من الشموع حتى إذا متنا من أجلها انتفضت حية وعاشت بين الأحياء»، وكان كتابه الشهير «في ظلال القرآن» لم يطبع منه سوى طبعة واحدة في حياته، وعقب إعدامه طبع الكتاب سبع طبعات في عام واحد، رغم ضخامته وكثرة مجلداته، ثم توالت طبعاته بعد ذلك لعشرات الطبعات إن لم يكن مئات الطبعات.

أسلوبه الأدبي المرهف وشديد الصفاء، وزهده الصوفي في حياته ومعاشه، وصدقه مع نفسه وقلمه، كانوا يقربونه من قلوب القراء، غير أن إعدامه حشد له عطف الملايين في مشارق الأرض ومغاربها، وساهم في انتشار كتبه وأفكاره انتشار النار في الهشيم، يرحمه الله.

جمال سلطان

باحث وكاتب صحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى