يحكي الشيخ أحمد شاكر، القاضي والعالم المحقق الكبير، شقيق المحقق واللغوي والعالم الفذ محمود محمد شاكر، واقعة حدثت في العقد الثاني من القرن العشرين، أثناء حكم السلطان حسين، عندما تقرر إرسال الشاب الكفيف “طه حسين” في بعثة تعليمية إلى فرنسا للحصول على شهادة الدكتوراة، في موضوع عن ابن خلدون، وقد جرت العادة أن يستقبل السلطان المبتعثين قبل سفرهم لكي يستحثهم على طلب العلم والاستقامة وتشريف مصر في باريس، ويقدم لهم بعض الهدايا الرمزية، وتكون فرصة أيضا للطلاب المحظوظين بتقديم آيات الشكر لمولانا السلطان على هذه المكرمة التي ستغير مسار حياتهم إلى الأبد.
يقول الشيخ أن السلطان في مثل هذه المناسبات كان يصلي الجمعة التالية في مسجد المدبولي المجاور لقصر عابدين، حيث مركز الحكم ومقر السلطان، فانتدبت وزارة الأوقاف خطيبا مفوها عليم اللسان، لكي يخطب الجمعة أمام مولانا السلطان، لأن هذه مناسبة لا يليق بها أن يكون خطيبها شخصا عاديا أو خطيبا ضعيف البيان عيي اللسان.
وانطلق خطيب الجمعة المختار في خطبته يتغزل في مولانا السلطان، ويكيل له المديح المفرط في النفاق، حتى نسي نفسه وزل لسانه، من فرط النفاق، فقال معلقا على استقباله للمبتعث الكفيف طه حسين : “جاءه الأعمى فما عبس ولا تولى”، وكان في المسجد يومها العالم الجليل الشيخ محمد شاكر، والد الشيخ أحمد، وهو وكيل الأزهر، وقاضي القضاة في السودان سابقا، وأحد أعلام الأزهر في ذلك الوقت، كما كان من أعلام الحركة الوطنية التي تبلورت في ثورة 19، فما إن انقضت الخطبة وأقاموا الصلاة، وبعد التسليم منها مباشرة ، وقف الشيخ محمد شاكر، وخطب في الناس : أيها الناس أعيدوا صلاتكم فإن الإمام قد كفر، وحدث هرج ومرج، وبالفعل قام الناس بإعادة الصلاة.
بعدها ذهب الشيخ محمد شاكر إلى قصر عابدين، وقابل رئيس الديوان، وشرح له لماذا أعاد صلاة الجمعة، ولماذا قال أن الإمام قد كفر، وأن ما قاله الإمام شتم غير مباشر للنبي وتعريض بمقامه الشريف، وهذا خروج من الإسلام.
تقاطعت مع الواقعة حسابات سياسية، فحرضت شخصيات نافذة في الدولة هذا الخطيب على رفع دعوى قضائية ضد الشيخ محمد شاكر، وكان خطيب المسجد متصلا ببعض المستشارين الكبار ، وله بهم علاقات وثيقة، ويؤدى لهم كثيرا من الخدمات فأشاروا عليه بأن يرفع دعوى جنحة مباشرة ضد الشيخ محمد شاكر لأنه سبه سباً علنياً في المسجد وفي ديوان السلطان .
فأعلن الشيخ قبول المواجهة القضائية، ودعوة خبراء في اللغة وعلماء شرعيين وأيضا مستشرقين، لكي يقدموا شهادتهم أمام المحكمة حول ما قاله الخطيب، وهل هو تعريض بمقام النبوة وإهانة للنبي الكريم أم لا، فلما تصاعدت الأمور خشي السلطان من انتشار نيران الواقعة ، فتقرر حفظها حتى نسيها الجميع.
ثم يروي الشيخ أحمد محمد شاكر قصة من أعجب ما يمكن، يقول : طوى النسيان تلك القضية قبل أن ينظرها القضاء ، ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا، قبل أن يجزيه جزاءه في الآخرة ، فأقسم بالله لقد رأيته بعيني رأسي ، بعد بضع سنين وبعد أن كان متعاليا منتفخا ، مستعزًا بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء، رأيته مهينا ذليلا ، خادما على باب مسجد من مساجد القاهرة يتلقى نعال المصلين يحفظها ، في ذلة وصغار ، حتى لقد خجلت أن يراني وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه ، فما كان موضوعا للشفقة ، ولا شماتة فيه فالرجل النبيل يسمو علي الشماتة ، ولكن لما رأيت من عبرة وموعظة.