بدون شك، كانت شرارة الفتنة التي ضربت الإسلام في مهده، في حكم الخلفاء الراشدين، والتي اصطلح المؤرخون على وصفها “الفتنة الكبرى” نظرا لكمية الدماء التي سالت، والأرواح التي أزهقت، والقتلى من خيرة صحابة رسول الله، وحتى المبشرين بالجنة، كانت مع مقتل خليفة رسول الله، ذي النورين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، غدرا وظلما وبغيا وعدوانا.
الطريقة التي تم بها اغتيال أمير المؤمنين عثمان بن عفان، كانت وحشية، محاصرته في بيته، وفرض الجوع والعطش عليه وعلى أهله ونسائه وأطفاله حتى الموت، لأيام طويلة، ثم اقتحام البيت وقتله بالسيف حتى سال دمه على مصحفه، ليلقى ربه شهيدا صابرا محتسبا، كانت جريمة عظمى، لم يسبق لها مثيل في الإسلام قبلها، وفتحت باب الشر على مصراعيه.
احتجاج معاوية رضي الله عنه “أمير عثمان على الشام”، على عدم محاكمة قتلة خليفة رسول الله عثمان، كانت له وجاهة وشرعية لا يمكن نكرانها، فلا يمكن أن يتم اغتيال رأس الدولة، وخليفة رسول الله، دون عقاب القتلة المجرمين، كما أن تولية بعض هؤلاء القتلة لبعض أفرع الجيش والولايات من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كان خطأ فادحا، أيا كانت المبررات، وأعطى انطباعا ـ في أجواء الفتنة ـ أنه موافق على عملية اغتيال خليفة رسول الله، ولم يكن ذلك صحيحا بالقطع، لكن في أجواء محمومة ودسائس وعرب أقحاح يفور دمهم للعرض والشرف والثأر، كان يصعب أن تنحي هذه المشاعر أو الانطباعات جانبا.
انقسام الأمة بعد فتنة مقتل عثمان، بين جيش علي وجيش معاوية، كان مروعا، وكل طرف فيه أصحاب النبي وأبناء الصحابة، وخيرة حوارييه، وحفظة القرآن والمبشرون بالجنة، وكل جبهة كانت تحمل اليقين بأنها على الحق، وعندما وقع القتال كان شرسا ودمويا وبالغ الخطورة على وجود الأمة المسلمة نفسها، حيث قتل فيه خلق كثير، معركة الجمل قتل فيها ما بين 20 ألفا إلى 30 ألفا، ومعركة “صفين” قتل فيها نحو 70 ألفا، وهذه أرقام مهولة بحسابات ذلك الزمان، حتى خشي الناس أن تندثر أمة الإسلام، حتى وفق الله الناس إلى إجراء التحكيم، ثم وقعت جريمة اغتيال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، على يد أحد أنصاره السابقين الذين خرجوا عليه، وارتكبوا تلك الجريمة الشنعاء، وهنا أصبحت جبهة معاوية رضي الله عنه هي الأقرب ـ عمليا ـ لأخذ زمام الحكم، وإدارة شؤون الدولة، ووقف الانهيارات، وحقن الدماء، وإعادة توحيد الأمة.
تولي الحسن بن علي، كان أول نزعة لتوريث السلطة في الإسلام، ويخطئ من يتحدث عن معاوية رضي الله عنه بأنه أول من أدخل فكرة التوريث في السلطة، بل أدخله الحسن بن علي رضوان الله عليه، بوراثته الحكم عن أبيه أمير المؤمنين علي، في ظل انقسام الأمة الكبير، ثم كان الغوث الرباني الذي ألهم الحسن ـ بنور النبوة ومروءة بيتها ـ بأن يسلم الراية لمعاوية، ويتنازل له عن طلبه الإمامة، لوقف انقسام الأمة، ووقف انهيارها، وحقن دماء أصحاب النبي، وقد أحسن معاوية بذكائه الفطري التعامل مع مبادرة الحسن، وأكرمه وأجله هو وبقية أهل بيت النبي، وقد بايع معاوية جمع كبير من أصحاب النبي، كما أن الحسن بن علي بايعه على إمارة المؤمنين وقيادة الدولة، فحقنت الدماء، وانطلقت الفتوحات الإسلامية تستكمل مسيرتها، ونعمت الأمة بسنوات من الرخاء والسلام والأمن والأمان، وتم إنشاء مؤسسات الدولة العظيمة، حتى قرب داعي الموت من معاوية، فأورث ابنه يزيدا الحكم من بعده.
القراءة السياسية للحظة التاريخية التي تمت فيها عملية نقل السلطة من معاوية إلى يزيد، تنتصر لهذا القرار وأهميته وعقلانيته، وأنه أفضل الخيارات الممكنة في تلك اللحظة أمام أي قائد مسؤول في رأس السلطة، فالأمة خارجة من انقسام دموي رهيب، وهناك ثارات لم تنطفئ بعد، وتباعد شديد للرؤى بين أجنحة في الدولة، كما أن أصحاب النبي كانوا قد توزعوا في الأمصار البعيدة والقريبة، ففكرة أن تستعيد نموذج “سقيفة بني ساعدة” للشورى كانت خيالا لا يتصل بالواقع أو الجغرافيا السياسية للأمة في تلك اللحظة، وفكرة أن تطرح فكرة الترشح والاختيار لم تكن عملية أيضا، لأن أولي الأمر تفرقوا في الأمصار المترامية، ومسألة أن تعلق أمر الدولة وسلطتها حتى يجتمع كل هؤلاء، وبعضهم يحتاج إلى عدة أشهر من السفر ليصل إلى دمشق عاصمة الخلافة، فكرة غير منطقية، كما أنه منذ مقتل عثمان رضي الله عنه لم يجتمع الرأي على أمير، لذلك أعتقد جازما أن اختيار أمير المؤمنين معاوية لتوريث يزيد الحكم هي فكرة سياسية عاقلة وحكيمة، تؤمن وحدة الدولة وسلامتها، وتحمي الأمة من تجدد الانقسامات الدموية التي كانت أنفاسها ما زالت حية.
مسألة حسن إدارة يزيد لشؤون الحكم من عدمه لا يمكن الحكم عليها بشكل جازم، لأنك ستجد الآراء متباينة، والحسابات الطائفية متداخلة، وهناك مؤلفات ترفع قدره إلى العلا، ومؤلفات أخرى تنسب إليه كل رذيلة، لكن ما يمكن قوله وتأكيده أن خروج الحسين رضوان الله عليه بالسلاح وتجييش الجيوش، لم يكن قرارا سياسيا حكيما، كانت نزعة تطهرية محضا لم تراع حال الأمة وانقساماتها وخطورة تجدد الحرب وبحر الدماء من جديد، وحتى لو كانت هناك أخطاء أو مظالم وقعت من يزيد رضي الله عنه، فإنها كان يمكن معالجتها بالنصح والمخاطبات والرسائل أو حتى بالمعارضة السلمية الناقدة، وليس الخروج بالسيف والدم، وقد أخطأ من حرضوا الحسين رضي الله عنه بالخروج المسلح، ثم خذلوه وخانوه وأسلموه، كما أخطأ جيش عمر بن سعد بن أبي وقاص، في الإصرار على ملاحقته وحصاره، حتى تم قتله، ليلقى الله شهيدا، وتفتح بمقتله فتنة أخرى تجدد فتنة مقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وقد أحسن يزيد بعد ذلك عندما احتوى أحزان آل البيت وأكرمهم وأمر بحمايتهم وإنزالهم منازلهم.
في تلك “الفتنة” الرهيبة، بفصولها كافة، لا يمكن أن تتهم طرفا فيها بسوء النية، أو بالاندفاع من أجل مصالحه وليس من أجل دينه، فكلهم أصحاب دين، وأصحاب النبي، وحملة القرآن الغض الندي على بعد سنوات قليلة من الوحي المنزل، لقد كان كل منهم يرى أن موقفه هو الحق المبين، وأنه ينتصر لدين الله، ولو لم يقيض الله لهذه الفتنة الحكيمين الكبيرين : معاوية والحسن، اللذين طويا صفحتها، فربما اندثرت هذه الأمة، أو انزوت في بقعة صغيرة من جزيرة العرب، بمن تبقى من المسلمين ممن نجوا من المذبحة الكبيرة، لكن الله سلم، وهدى الأمة إلى الصلح، وأعاد وحدتها، ثم استقرت دولتها قرابة مائة عام على يد خلفاء من بني أمة، نشروا الإسلام في أقطار بعيدة، وفتحوا البلاد لنور الحق من الهند شرقا إلى الأندلس غربا، ونعم المسلمون في حكمهم بحقبة من السلام والأمن والأمان والخير العميم، حتى أذن الله بزوال دولتهم لتولد دولة بني العباس، في دورة جديدة من دروات الزمن.
لذلك، كان أحكم ما قيل في هذه الفتنة، هو قول السلف الصالح، أن نكف ألستنا عن الخوض فيها وفي أطرافها، فنتهم هذا ونطعن في ذاك، بل نترضى عليهم جميعا، ونعذر نياتهم، ونتسامح مع تقدير اجتهاداتهم، ونكل أمرهم إلى الله، ونقدر عظم الدسائس التي افتعلتها قوى جاهلة لم تكن تريد خيرا لهذه الأمة وتعمل على الوقيعة بين أهلها، وإشعال الحرائق والحروب، لتأتي على شأفتها وتقطع جذورها، لكن الله سلم، بحكمة الإمامين العظيمين، الحسن بن علي، ومعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما.