جمال سلطان يكتب: في ذكرى المفكر الفارس النبيل «أنور الجندي»

عندما ذهبت مع صديق، لتقديم واجب العزاء لأسرة فقيد الإسلام، والفكر الإسلامي، الأستاذ أنور الجندي، عقب وفاته، في بيته الكائن بمنطقة ” الطالبية ” أحد الأحياء الشعبية الفقيرة في القاهرة، كانت صورة هائلة تستحوذ على خيالي وفكري، صورة المفكر الكبير الذي أثرى المكتبة العربية والإسلامية بأكثر من مائتي كتاب، أكرر، مائتي كتاب، في الأدب العربي والفكر الإسلامي وتاريخ الفكر المصري الحديث والمعاصر وقضايا التغريب والأصالة والدفاع عن هوية الأمة وشخصيتها التاريخية وحضارتها ودينها، وبقدر هذه الهالة الكبيرة التي كانت تستحوذ على ذهني وتستغرقني بقدر المفارقة عندما دخلنا إلى بيته شديد التواضع في ذلك الحي الشعبي، وهو بيت قديم متهالك، لا تحس فيه أية مسحة من الترف، حتى أن ابنته الوحيدة قالت لنا إن الأستاذ أنور لم يكن لديه حتى سخان للمياه، على كبر سنه وشدة برد الشتاء في مصر، وكان من عجائب ما سمعناه منها أن هذا الشيخ الكبير الغارق في بحر من الكتب وأكوام الصحف والمجلات، كان يحرص كل صباح على أن يعد بنفسه “سندويتشات” حفيدته ثم يصحبها للمدرسة القريبة، ثم يشتري لأسرتها احتياجاتها اليومية من الأسواق والبقالات المجاورة، ثم يعود إلى مكتبه ليواصل رحلة عطائه.
أعجب من ذلك ما حكته ابنته وبعض جيرانه عن أن الرجل كان يخرج كل يوم لصلاة الفجر، وأحيانا كان يجد خط الماء وقد تعطل وانقطعت المياه عن المنطقة، فيحمل معه أوعية بلاستيكية للماء “جراكن” ويملؤها ثم يعود من صلاته ليضعها أمام باب كل جار، ويقول لابنته عندما تعاتبه “إن الله سائلني عن هؤلاء”.
ذكرتني هذه الواقعة بحديث جرى بيني وبين المرحوم الأستاذ حسن عاشور، ناشر مجلة “الاعتصام” الشهيرة، وصاحب مكتبة الاعتصام، وكان أحد أبرز ناشري كتب أنور الجندي، قال: عاتبت الأستاذ أنور ذات يوم لأنه تأخر عن موعده معي في المكتبة الكائنة بوسط القاهرة، فاعتذر الرجل بأنه لا يقوى على ركوب الحافلة العمومية “الأوتوبيس” أثناء عودتها من الهرم ـ حيث يسكن ـ باتجاه وسط القاهرة لشدة زحامها وضعف صحته عن المزاحمة، فيضطر لركوبها في الاتجاه الآخر قرب نهاية الخط حيث تكون شبه فارغة، لكي يتسنى له الجلوس على مقعد بها، ثم ينتظر داخلها حتى تعود إلى وسط القاهرة، يقول الرجل بحزن وأسى شديدين: كان أنور الجندي يتزاحم في الحافلات العمومية بينما هناك صبية صغار من المحسوبين على الصحافة والقلم يمرحون في شوارع القاهرة بأحدث السيارات.
هذا المفكر النبيل، عفيف النفس، كان منقطعا للعلم والعمل والبحث والزهد والتقرب إلى الله، تقول ابنته انها كانت عندما تقع عينها على صحيفة أو مجلة تتحدث عنه وتثني عليه فتهرع إليه بالجريدة مستبشرة، تجده يشيح عنها ويقول: دعك من هذه “القشور” فهي تضيع الوقت والبركة، كان الرجل فقيرا لا عن عجز وإنما عن زهد وقناعة، حتى أنه كان يوزع الجوائز التي يحصل عليها من بعض أعماله على فقراء منطقته الشعبية، رغم أنه منهم، فقير مثلهم.
أنور الجندي بميزان الفكر والقلم أحد أهم أعلام الفكر العربي في القرن العشرين، وإن كانت الصحافة، خاصة المؤدلجة، المهيمنة على زوايا الفكر والثقافة ومنابرها في العالم العربي حاولت قبره في حياته كما تجاهلته بعد رحيله، منذ أكثر من خمسة وثمانين عاما عرفت الصحافة العربية قلم أنور الجندي الأديب والمفكر والكاتب، وعلى مدار هذه السنين الطويلة، حتى وفاته عام 2002، تواصل عطاء الرجل، ومثل سجلا رائعا لمعارك الفكر والأدب في القرن العشرين، كما مثل ثورة في الوعي العربي تجاه مرحلة النهضة وروادها وأفكارها وتياراتها، الأمر الذي أهاج عليه هجمات المتغربين وأصحاب “الوثنيات” الفكرية، الذين كانوا يقدسون شخصيات ورموزا، كشف هو عن أخطائهم بل خطاياهم أحيانا، كشف حقائق كانوا يظنونها لا تكشف، أو لا ينبغي لها أن تكشف.
أنور الجندي الذي حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1960، مثل في مرحلة السبعينات والثمانينات من القرن العشرين كتيبة فكرية كاملة العتاد والسلاح في وجه تيارات التغريب، وما زلت أذكر أن كتبه ورسائله التي أخرجها في ذلك الوقت كانت تمثل زادا متجددا يحمي عقولنا ـ نحن الشباب أبناء ذلك الجيل ـ من التيه وتزييف الوعي، وكانت من غزارتها واستمراريتها أشبه بمجلة أسبوعية، فانتقل بنا نقلة بعيدة، جعلتنا أكثر جرأة في إعادة النظر تجاه رموز أريد لها أن تكون أوثانا فكرية غير قابلة للنقد أو المراجعة، وبكلمة واحدة فكل مشتغل بالفكر الإسلامي في نصف القرن الأخير في مصر تحديدا هم «عيال» على أنور الجندي، يرحمه الله.