تخيل لو أنك كنت مسجونا في سجن صيدنايا، وكان من سجنك وسلمك إلى بشار ليعذبك في أقبيته السرية المظلمة هو نفسه ذلك الشخص الذي اعتقدت يوما أنه أخوك الذي لطالما كان يتغنى أنه يريد تحرير مسرى رسولك محمد صلى الله عليه وسلم،
وبدلا من أن يتجه للقدس جاءك على قريتك الصفيرة ليساهم في قتلك وتدمير بيتك، لم تفعل له شيئا، لم تعتدِ عليه، كنت تعتبره أخا لك، لم تسأله يوما عن دينه أو مذهبه، كنت تعتقد أنه مقاوم ومناضل مثلك تماما من أجل الحق والعدل،
والآن عندما ثرت أنت من أجل الحق والعدل والكرامة على مجرم حقير لا دين له ولا شرف له، وكان قاب قوسين من السقوط، ها هو من كنت تعتقد أنه أخوك وسندك يغزو وطنك بكامل سلاحه ليسند ظهر ذلك المجرم ويعينه للاستمرار لسنوات إضافية أراق بها شلالات من دماء الأبرياء من أبناء وطنك،
ويساهم ذلك الشخص في قتل حلمك بالعيش في وطنك بحرية وكرامة، بعد أن جاءك إلى قريتك الآمنة ليخرب بيتك الصغير ويدمر حياتك، ويشتت شمل عائلتك، فيقتل أخاك الصغير الذي رفض السجود لصورة ذلك المجرم، ويسلم أختك الكبيرة إلى مغتصبيها أمام عينيك، لتعيش هي ووليدها في سجن لا شمس له، ليذهب أبوك باحثا عنها من سجن إلى سجن،
حتى اختفي أثره في يوم من الأيام، وما زلت لا تدري أحي أبوك أم ميت أم فقد عقله وذاكرته في التعذيب، ما زلت لا تدري، وقد تعيش حياتك كلها لا تدري،
بينما ماتت أمك حسرة على ما أصابكم من آلام ومآسي بسبب ذلك الشخص، أما أنت فبقيت لتراه يقتل أصدقاءك الذين كنت تلعب معهم صغيرا بسعادة في بساتين قريتك المسالمة قبل أن يأتيك هو ومن معه ويتعاونوا مع قاتليكم ليلقوا عليها البراميل المتفجرة ويدمروها حجرا حجرا فوق رؤوس الأطفال والعجائز الذين قضوا تحت الأنقاض،
وبعد ذلك أشرف نفس ذلك الشخص الذي كنت تعتبره أخا لك على مطاردتك من مدينة إلى مدينة، بعد أن دمر مسجد قريتك وانتهك مقدساتك،
وبعد أن قبض عليك سلمك إلى سجانيك المجرمين في صيدنايا، ليعذبوك ليل نهار، لتنام على أصوات آهات المعذبين كل ليلة، وتستيقظ على صوت تكسير الهياكل العظمية في مكبس العظام، ولمعجزة ما استطعت أنت الهروب من السجن لتعيش مشتتًا في بلاد الله من مكان إلى مكان،
يهينك أرذل الخلق، ويقلل من قيمتك أسفل الناس، ويسخر منك شراذم الخلق بكلمة مشرد لأنك رفضت أن تكون عبدا مثلهم واخترت أن تعيش حرا لاجئا في أرض الله تفتش عن أرض تستقبلك، فركبت قوارب الموت بحثًا عن بصيص للأمل، ليغرق ذلك المركب،
وترى أمامك جثث أطفال بلدك تتقاذفها الأمواج، فيكون بعضهم طعاما لأسماك البحر، وتستقر جثث الآخرين على شواطئ صخرية نائية، ليقدر الله لك الحياة من جديد، فتصل إلى بلد غريب لاجئا محطما ضاعت منك زهرة شبابك، كل ذلك بسبب ذلك الشخص الذي اعتقدت يوما أنه أخ لك، وبعد كل هذه الأحداث والمآسي سمعت بأنه قتل لأي سبب من الأسباب، حتى لو كان قتل وهو يقاتل إبليس ملك الشياطين،
بالله عليك اصدقني القول، هل كنت ستحزن عليه وقتها حتى وإن كان قد حرر القدس؟! أم أنك ستتذكر كيف دمر حياتك، وتتذكر أصوات آهات المساجين، وتتذكر صراخ أخواتك الصغيرات وهن يأسرن بسببه،
وتتذكر أصوات تكسير العظام في صيدنايا، وتتذكر جثث الأطفال الطافية في البحار والشواطئ الذي تسبب هو بتشردهم وتدمير حياة أمهاتهم إلى الأبد؟ ماذا كنت ستفعل لحظتها بصدق؟ هل ستعفو عنه حتى ولو كان يقاتل الشيطان؟!
فكر بالإجابة قليلا، فالإنسان أحيانا لا يفهم معنى آلام الآخرين حتى يعيش بنفسه تلك الآلام، واعلم أن سعادة المظلومين بموت ظالميهم لا تعني بالضرورة مساندتهم للشيطان الذي قتلهم، فهم يكرهون ذلك الشيطان أكثر منك، لأنهم تعرضوا للظلم وصار كره الظالمين يجري في عروقهم مجرى الدم، بل كانت فرحتهم فرحة مظلوم رأى بعينيه نهاية ظالمهم، وتذكر قول الله سبحانه وتعالى:
“وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”
يقول الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير الآية: “وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه سلط الله عليه ظالما آخر!”.
وتذكر الحديث النبوي الذي أخرجه البيهقي عن ابن عباس: “لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال: مرحبا بك من بيت، ما أعظمك، وأعظم حرمتك! وللمؤمن أعظم عند الله حرمة منك”. لذلك قبل أن تلوم من سعدوا بهلاك ظالميهم الذين تسببوا في قتل أحلامهم وإراقة دمائهم وصناعة مآسيهم التي لا تعرف أنت عنها شيئا، حاول أن تضع نفسك مكانهم على الأقل لتتفهم مشاعرهم، حتى لا يبتليك الله في يوم من الأيام بظالم آخر يجعلك تشعر فعلا بما شعره هؤلاء المظلومين، فدمك ودمي ودماء كل من على الأرض ليست أغلى من دماء هؤلاء الأحرار!