في ظل حالة القطيعة والخلافات المتزايدة بين فرنسا ودول تحالف الساحل الأفريقي أعلنت باريس عن انفتاحها على حوار ثنائي مع السلطات النيجرية معربة عن استعدادها للتعاون في مجالات البحث وتتبع الممتلكات التراثية
جاء ذلك في رسالة وجهها المندوب الفرنسي الدائم لدى الأمم المتحدة بتاريخ 19 يونيو حزيران الماضي ردا على خطاب سابق من المقرر الخاص للأمم المتحدة الذي يتولى متابعة شكوى تقدمت بها أربع جمعيات نيجرية تمثل أحفاد ضحايا بعثة أفريقيا الوسطى الفرنسية عام 1899 ،والتي تعد من أكثر الحملات الاستعمارية دموية في المنطقة.
ووفقا لخطاب المقرر الخاص وأستاذ القانون الدولي بجامعة كيبيك مونتريال فإن فرنسا كانت على علم بالانتهاكات التي ارتكبتها تلك البعثة دون أن تحاسب المسؤولين أو تفتح تحقيقات رسمية كما أنها لم تعترف رسميا بما اقترفته بحق المدنيين
جرائم بعثة 1899
في ذلك العام اجتاحت قوات المشاة الفرنسية بقيادة النقيبين بول فولييه وجوليان شانون مناطق عدة في النيجر حيث قامت بقتل الآلاف من المدنيين ونهب الممتلكات بهدف بث الرعب بين السكان وبعد عام من عمليات القتل والدمار أعلنت فرنسا ضم النيجر رسميا إلى مستعمراتها في غرب أفريقيا
اجرام فرنسى
وكانت مجزرة بيرني نكوني من أفظع الجرائم حيث قتل 400 شخص في يوم واحد كما دمرت القرى الواقعة على مسار البعثة بما في ذلك مدينتا زيدنر وتلابييري وعلق الجنود الجثث في الطرقات مما دفع الكثير من السكان إلى الفرار نحو نيجيريا
وفي محاولة لاحتواء الأوضاع أرسلت فرنسا العقيد جان فرانسوا كلوب ليتولى القيادة بدلا من فولييه الذي تسببت قواته في دمار هائل إلا أن كلوب قتل برصاص جنود كانوا ينفذون أوامر فولييه نفسه
اعترافات جزئية
خلال السنوات الأخيرة بدأت فرنسا مواجهة إرثها الاستعماري عبر سلسلة من الاعترافات جاءت نتيجة تصاعد المشاعر المعادية لها في أفريقيا ففي 2021 اعترف الرئيس إيمانويل ماكرون بمسؤولية بلاده عن الإبادة الجماعية في رواندا وفي العام التالي أقرت باريس بمجزرة سطيف في الجزائر عام 1945 كما قدمت اعتذارا رسميا عام 2023 عن قمع انتفاضة مدغشقر عام 1947.
لكن فرنسا ظلت متحفظة إزاء جرائم بعثة فولييه وشالون في النيجر والتي تكاد تختفي من المناهج التعليمية في كلا البلدين بسبب إخفاء الوثائق الرسمية لعقود مما أضعف شهادات أحفاد الضحايا وأعاق جهود كشف الحقيقة.
مطالب بكشف الأرشيف
تدعو المحامية البريطانية السنغالية جيليا ساني والتي عملت مع المجتمعات المتضررة إلى فتح الأرشيف الفرنسي رسميا للكشف عن حجم الجرائم المرتكبة بينما يرى الأستاذ حسيني طاهيرو أحد نشطاء الحملة أن الاعتراف بالجرائم يجب أن يسبق أي نقاش حول التعويضات
وردا على ذلك أكد المبعوث الفرنسي لدى الأمم المتحدة أن بلاده لم تتلق طلبات رسمية من النيجر لاستعادة القطع الأثرية أو رفات الضحايا وأشارت المحامية ساني إلى أن فرنسا لا تنكر الأحداث صراحة لكنها تتجنب التعامل المباشر مع الحقائق رغم صعوبة إنكارها نظرا لوجود تحقيقات فرنسية سابقة في بعض هذه الادعاءات
ومن المتوقع أن تدرج القضية في التقرير القادم لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة والذي سيعرض أمام الجمعية العامة في أكتوبر تشرين الأول 2025 وهو العام الذي أعلنه الاتحاد الأفريقي عاما للتعويضات عن جرائم الاستعمار
نموذج التعويضات
يشير المؤرخون إلى أن المناخ الدولي أصبح أكثر ملاءمة لمطالبات التعويضات خاصة بعد اعتراف ألمانيا عام 2021 بإبادة قبائل الهيريرو والناما في ناميبيا وتعهدها بدفع 11 مليار يورو كمساعدات تنموية.
أما في النيجر فلم تطرح مسألة التعويض المالي بعد إذ لا يزال عدد الضحايا الدقيق مجهولا ويؤكد الوزير والمؤرخ محمودو دييبو أن بلاده لا تسعى للمال بقدر ما تريد اعترافا رسميا بجرائم فرنسا ضد الإنسانية تمهيدا لحوار بناء.
من جهتها تدعي فرنسا أن مناهجها التعليمية تتناول تاريخ الاستعمار لكنها تمنح المدرسين حرية واسعة في معالجة هذه الموضوعات، بينما تستمر العلاقات المتوترة بين البلدين منذ انقلاب 2023 الذي اتهمت فيه باريس بالتدخل في الشؤون النيجرية ودعم جماعات مسلحة تقوض استقرار المنطقة.