حاتم سلامة يكتب: آهٍ من أبناء العلماء
أنا واحد ممن يعشقون العلم وأهله، ويقدرون العلماء الصادقين ويقبلون أياديهم، وتكون أسعد لحظة لي في الدنيا حينما أنظر في وجه أحدهم وأغترف من نور محياه، فقد قرأت قديما ما قاله أحد الحكماء: وحق العالم آكد من حق الوالد، لأن الوالد يحرص على خيرك في الدنيا، أما العالم فيهديك لخير الآخرة.
وقرأت كذلك قول بعضهم في تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]: أن المراد بالشعائر جمع شعيرة، وهي ما أشعر الله بتعظيمه، والله أشعر بتعظيم العلماء، فيدخلون في الآية، وليس المراد من تعظيم العلماء الغلو والخروج عن المنهج.
وأمام هذا الحب الكبير تعلمت في حياتي درسًا مهمًا لكنه كان قاسيًا مرًا، لا أعلم لماذا تجاهلته عقليتي وأدارت له ظهرها عاطفتي، قبل أن يتبين لي أن الخطأ فيه مني وليس من غيري، فاللوم وحده يقع علي لسوء تقديري.
لقد تعلمت وأنا شديد الحب للعلماء العاملين الربانيين، ألا أربط بين العالم وأولاده، ولا أعتقد أنهم امتداد له، أو صورة مشابهة منه في سموه وأخلاقه فإذا أردت أن تحب عالما ووقعت في غرام علمه وخلقه، واستطاع أن يأثرك بكريم أخلاقه وعبقرية عقله، فإياك إياك بعد موته أن تتلمسه في أبنائه.
فهؤلاء الأبناء في أكثر حالاتهم شيء مختلف عن أبيهم، فبعضهم بعد رحيل والده، يكون أول عمل يفعله وربما قبل دفن أبيه، أن يرمي بمكتبته في المحارق أو القمامة، فكتب والده شيء بغيض يؤرق عليه جمال البيت وأركانه.
وأنا هنا أحكي تجربة خاصة وجدتها في نفسي، فقد أحببت عالمًا كبيرًا، وشاء القدر أن أقترب من بعض أبنائه وأتواصل معهم، لكنني دهشت حينما رأيت القسوة والأنانية وتقديس المادة وأساليب التجريح التي كانت تتنافى مع والد عُرف بالرقة واللطف والذوق الرفيع.. والحق أنني أمام هذه الصور الشوهاء، وجدت شيئا عجبا تمثل في مشاعر سلبية وضغينة في قلبي على العالم نفسه، ووجدت حبي وتقديري له قد تبدل حجمه وتغير عمقه، وانطفأ نوره وفتر وهجه، وضعف ميله وضمرت رغبته، ولم يعد له في ذاتي وعاطفتي ذلك الوهج الذي كان بسبب ما لقيت من أبنائه وما نالني منهم.
لا شك أنني كنت من المخطئين حينما حمّلت العالم سوء تصرف أبنائه، وأخذه بسلوكهم ونقائصهم، مع أن القرآن يقص علينا ببيان وافر أن هناك فرقا بين نوح عليه السلام وولده الكافر، والقرآن الكريم يردد علينا أن لا تزر وازرة وزر أخرى.
لكن هذا المعنى أغفلته عن بصيرتي تلك العاطفة التي حينما تجمح فإنها تخاصم الحق والمنطق والصواب، حتى كان هذا الحديث بيني وبين أخي الجليل والصديق المهذب دكتور علي زين العابدين، الذي بصرني بحديث روحي أعاد الحق إلى نصابه فقد قال لي: «اصبر واحتسب فالمحبون دوما ما يقابلون بالإساءة ومن عجيب ما حدث لي ولا أنساه أبدا فأحد علماء جيزان كان قد منعنا من الدخول عليه أحد أبنائه فكنا نتواعد مع الشيخ بعد خروج ولده ونتحايل، فالباب يكون مغلقا فنقرأ عليه من باب الحوش هو بالداخل ونحن بالخارج.
وأحد أبناء عالم كبير بمكة منعني من الدخول على أبيه لسنوات حتى مات ولم أجتمع به، وفي إحدى العمر بعد وفاة أبيه بسنوات، علمت أنه مريض وأنه أصيب بالشلل فزرته برا بأبيه وتذكرني وتأسف كثيرا فقلت له: لا عليك الأمر سهل وأنت ابن عالم له حقوق علينا.
فأبناء المشايخ ٩٩ منهم هكذا، فنحن مع ذلك نحبهم لمكانة آبائهم، بوركتم سيدي وأعانكم المولى في رسالتكم السامية»
وأمام هذا الحديث الرائع والنصح الراشد الناضج، تبين لي الحق وعادت محبة العالم إلى مكانها في قلبي، وتجاوزت أفعال أبنائه، واستطعت بحمد الله أن أفصل بين الطرفين، ولا أعاقب أحدا بذنب لم يفعله ولا يرضاه، بل تبين لي أكثر وأكثر أن هذا الجور من باب الظلم الذي لا ينبغي أن يكون.
لكنني وجدت في نفسي عزوفا وحذرا من أبناء العلماء، حماية لمحبتي لآبائهم أن يصيبها ضرر.
وفي حديث لي مع أحد الباحثين الكبار، حينما علم بأن عالما من العلماء المشهورين، له تفسير للقرآن الكريم غير معروف، وأنه طبع منه 13 مجلدا ثم رحل عن الحياة، فتواصل مع أبنائه، فأخبروه بأن بقية التفسير موجودة، كتبها والدهم بخط يده قبل أن يموت، ولكن صديقي الباحث، كان في غاية الاستياء من معاملة أبنائه، حيث ضنوا عليه بالمكتوب حتى يطبعه ويظهره للنور، وأذاقوه ألوان العذاب كلما أعطوه ملزمة من الملازم، وحينما يطالبهم بالبقية يتحججون بأنها تحتاج البحث والتنقيب وهم مشغولون، وفي كثير من الأحيان يتهربون منه، ولا يعلمون أنهم يتهربون من بر والدهم والوفاء له، بل يكتمون عن الناس علما ولا يعرفون جرم ذلك.
سمعت أن ولدا لأحد فقهاء الإسلام الكبار وكان يلقب بفقيه العصر خرج على هدي أبيه وكان مسئولا كبيرا في المنظمات الشيوعية.
وعلمت كذلك أن ولدًا لأحد الأدباء الكبار الذين يرجع إليهم الفضل في حماية التراث والدين، كان شيوعيا منحلا.
فهل بعد هذا العوار يمكن أن نبغض العالم لفساد ولده؟