حاتم سلامة يكتب: أي إيمان هذا؟
أي إيمان هذا الذي يدفعك أن تنفق 50.000 من الجنيهات أو أكثر لأداء مناسك العمرة وتكرارها كل عام، بينما تترك خلفك جيوشًا من الفقراء المسحوقين، والمرضى المعذبين، والعرايا المشردين، والجائعين المحتاجين؟
حدثتني أخت فاضلة أنها تستعد لأداء العمرة هذا العام، بعدما ادتها العام الماضي لأنها تشعر براحة نفسية فائقة، وقرب من الله عظيم وهي في بيته الحرام، فذكرت لها أن القُرب الحقيقي من الله في سد جوع الفقير وإعانة المحتاج، وشفاء المريض الذي يقتله الألم، وفك كرب كل مهموم محزون أذلته الفاقة.
أعادت الحديث عن راحتها هي، وإذا كانت تحرص على راحة الناس بالإنفاق عليهم، فأين راحتها هي؟
قلت لها: هكذا المسلم لا يرى نفسه إلا في سعادة الآخرين، وإن راحته الحقيقية سيجدها في بركة ويقين يقذفهما الله في قلبه حينما يكون في عون أخيه، لكنني كنت أكثر صراحة معها بأن حديثها تفوح منه الأنانية المُفرطة، إذا دعتها الحاجة أن تفكر في سعادتها والعالم حولها مقهور بهذه الأزمات.
قالت: ومن أدراك أنني لا أتصدق؟
قلت لها: وهل تساوي بضع مئات تنفقينها في سبيل الله، أمام عشرات الألوف في العمرة، والله تعالى يُرضيه عنك أن تنفقيها عليهم بدلًا من أن تزحفي إلى بيته الحرام.
إن الأكباد الجائعة أولى بكل ما نملك وما نستطيع، إذ كيف يعقل أن يجتاح الفقر حياة الناس، ثم أذهب لأنفق هذا الثمن الباهظ في رحلة إلى الكعبة؟
عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالكعبة، ويقول:
“ما أطيبك، وأطيب ريحك! ما أعظمك، وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده، لحُرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله، ودمه”. أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني
هذا هو الفهم الأمثل في الإسلام وفي وجدان المتأملين العقلاء من أهله، أما أن أسعى وراء أوهام نفسية، وخيالات وجدانية، وأترك الأولوية التي يحث عليها ديني ويأمرني بها ربي، فهذا نوع من التهريج، أو هو من تلبيس إبليس.
وقد كتبنا مرارًا وتكرارًا عن الخدعة الكبرى التي تختلط على كثير من الناس، حينما يتصورون أن الراحة النفسية التي تغمرهم، هي رضاء الله المنشود.
فرق كبير بين رضاء الله والراحة النفسية، التي يمكن حتى أن تعتري أي فاسق أو فاجر فيتصور أن الله تعالى معه ويؤيده وينصره، فيوغل في عقوقه وكفرانه بسبب وهم خَدَّاع.
ودعني أقولها صراحة: إن أي مسلم ينفق مثل هذه المبالغ كل عام للعمرة أو الحج هو مسلم لا إحساس ولا شعور لديه، وليس هو المسلم الذي يسعى فعلًا إلى طاعة ربه ورضاه بالشكل الأمثل المطلوب.
انظر لهذه الكلمات الخطيرة التي نطق بها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
ليس منا.. من بات شبعان وجاره جائع.
ليس منا.. من لم يهتم بأمر المسلمين.
نعم لست منهم.. في الوقت الذي تتأهب أنت للرحلة الإيمانية لتكون منهم.
بقيت نقطة مهمة وهي أن بعضهم يقول لي مستعليا: وجه هذا الكلام لأهل اللهو والفجور لا أهل الطاعات، وجهه لمن ينفق الملايين في المصايف ويقيم السهرات والحفلات والليالي الملاح ورحلات السياحة والترفيه، وأنا هنا لا أعلم مال هؤلاء الناس بكلامي هؤلاء أغلبهم لا يهمهم دين أو إنفاق، والكلام على اعتبار موضوعه يعتبر موجه لهم في المقام الأول، فإذا كان هذا حديثنا عن أمور الطاعة فكيف بالأمور الأخرى ليكون تأخيرها والامتناع عنها من أجل الفقراء أشد وآكد.. وهو أمر مفهوم بدهيا لا حاجة للتنبيه عليه لمن احتج به وظن أنه قد أتى بالبرهان الساطع والسر الباتع.
قوم آخرون يحتجون بأن النبي أوصى بتتابع العمرة إلى العمرة لأن فضلها كذا وكذا، وأنا لا أعلم كيف يسير المسلم منفصلا عن واقعه وهو يردد الأحاديث النبوية، فهذه الأحاديث في فضل تكرار العمرة تقال حينما نكون في حالة رخاء ولا ننفق الألوف المؤلفة في مثل هذا العمل، أنا حينما يكون الانفاق عليها بمثل هذا السعار وهذا الجنون، فهنا يختلف الأمر ويختلف التقويم.. وتعاد الحسابات مرة أخرى ويصير التوجه للعمرة على حساب الإنسان هدرا لحياة هذا الإنسان… تكفيك عمرة واحدة تقبل بها على ربك، وإذا أحببت تجديد الرضا الإلهي فتوجه إلى الفقراء والمساكين.