الأحد أكتوبر 6, 2024
مقالات

حاتم سلامة يكتب: احذروا ذاكرة الصغار

مشاركة:

مما يثير حيرتك أن الأستاذ العقاد لم يؤلف كتابا عن زعيم الوطنية الكبير مصطفى كامل، وهو الكاتب العملاق الذي ألف كتبا عن زعماء الشرق والغرب، والقديم والحديث، إلا أن الحنين إلى الحديث عن مصطفى كامل لم يلامس قلبه يوما، مع أنه الزعيم الذي احتل مكانة سامية في قلوب الملايين من شعب مصر، لما كان له من وطنية صادقة وشجاعة مفرط في مجابهة المحتلين الغزاة.

ويبحث المرء عن جواب؟ فيخيل إلى البعض أن السبب الأكيد كون العقاد وفديًا، وبين الوفد والحزب الوطني بزعامة كامل خصومة معروفة، حتى أن العقاد وهو يعمل في صحيفة الدستور مع الأستاذ محمد فريد وجدي، دفعه الحنين أن يجري أول حوار في الصحافة المصرية مع الزعيم سعد زغلول.

لكن هل تتخيل أن هذه الصدود عن مصطفى كامل كانت له أبعاده النفسية القديمة في ذات العقاد منذ زمن بعيد، منذ أن كان صبيا وتلميذا في المدرسة، وكان له ذلك الموقف المشهود مع الزعيم مصطفى كامل، وشكل انطباعه عنه في وجدانه والذي لم ينفك أبدا بعد كبره.!

يذكر العقاد قدم مصطفى كامل إلى أسوان في موسم الشتاء، ومعه الأمير حيدر ومدام جولييت آدم وكاتبة إنجليزية من الأحرار تسمى مسز يونج -على ما أذكر- وهم جميعًا في رحلة نيلية.

وخرج مصطفى كامل ذات صباح يتمشى على شاطئ النيل ومعه الكاتبتان الفرنسية والإنجليزية، فوقفوا عند باب المدرسة الأميرية وسألوا البواب عن «حضرة الناظر» فغاب هنيهة، وعاد يقول له: إنه غير موجود!

وذكر مصطفى كامل أن صاحب المدرسة الأهلية -وقد كان يراسل اللواء- قد دعاه إلى زيارتها، فقال لصحبه: مدرسة بمدرسة، فلنذهب إلى المدرسة التي «ناظرها موجود».

ودخل غرفة السنة الرابعة وفيها درس اللغة العربية، فجلس مكان التلميذ الذي كان يكتب على اللوحة، وأملى عليه هذا البيت لأبى العلاء ليعربه ويشرح معناه:

والمرء ما لم تفد نفعًا إقامته غيم حمى الشمس لم يمطر ولم يسر

وترجم مصطفى كامل هذا البيت إلى اللغة الفرنسية في طلاقة وثقة، وناقش التلميذ في شرح معناه، فتلعثم التلميذ ولم يجب بطائل، فأسعفته معتذرًا له بأن الغيم الذي لا يمطر في أسوان ولا يسير نعمة محبوبة، وأن الغيم الممطر وغير الممطر عندنا قليل!

ولاح لي أن «الباشا» لم يسترح لهذا التعقيب، ولم يتقبل منه الإشارة إلى خطئه في اختياره، وإن لم يكن في الأمر غير فكاهة تتلاقى فيها التخطئة والتصويب.

ثم يقول العقاد معترفا:

«صورة مصطفى كامل التي بقيت في خلدي مدى الحياة، هى الصورة التي انطبعت فيه من أثر هذه الرؤية الأولى»

بل منعه هذا الموقف القديم أن يسعى سعي المجتهد كبقية زملائه أن يكون عضوا بهذا الحزب الذي سارع إليه الجميع يرفعون لواءه فيقول

«لم أشترك في الحزب بعد إعلان تأليفه كما اشترك فيه زملاؤنا الصحفيون، ولا يخطر لى الآن، ولم يخطر لي قبل الآن، أن تلك الصورة التي ارتسمت في ذهني من لقاء مصطفى كامل للمرة الأولى هي التي أخرتني عن طلب الاشتراك في حزبه»

ثم يعترف أن هناك اختلاف رصده بين طبيعته وطبيعة مصطفى كامل، وهو الاختلاف الذي يمنع التلاقي والانسجام

“أستطيع أن أقول إن اختلاف الطبيعة البعيد قد رسم أمامي مثالًا للإمامة المذهبية غير هذا المثال، فإن مصطفى كامل كان من أصحاب الطبيعة الخطابية الشعورية، وكانت الطبيعة الأدبية والفكرية أقرب إلى وأحرى بالاتباع، فضلًا عن نفور أصيل عندي من التقيد بالحزبية فى الرأي، أيًّا كان مقصدها في السياسة أو الأدب أو الثقافة على الإجمال.

واختلاف الطبيعة هو الذي جعل لي سبيلًا في المسائل القومية غير السبيل التي كان يختارها مصطفى كامل في كثير من مواقفه العامة.”

بل تعدى الأمر من الحيز السياسي إلى الحيز الأدبي والنقدي، فقد كانت قصيدة شوقي في مصطفى كامل من أشهر القصائد التي تناولها العقاد بالنقد، فهل ياترى يرجع ذلك لموقفه من الزعيم أم موقفه من شوقي وشعره؟!

ولعلنا نخرج من العلاقة بمفاد آخر ألقت به ذكريات العقاد وما انعقد منها في نفسه وتشكلت به

فأذكر أنني حينما أردت الحديث عن التيئيس والتحطيم والتثبيط، وجدت حنينا في قلمي يعرج بي أو يبحر بي في ذكرياتي الماضية، حينما كنت صبيا في مقتبل العمر، أرصد وأتذكر ما مررت به من مواقف أناس قابلتهم في حياتي وقد حاولوا تحطيم نفسي وهدمي والإجهاز علي، لقد كانوا سعداء بأي لحظة إخفاق مررت بها، ولم يتواروا خجلا أن يعبروا عن نشوتهم أمامي وما دروا أنهم يعلنون عن حقيقتهم القبيحة الدنيئة.

والمرء في صغره عامله بحسن ورفق، واعلم أن كل مشهد منك تختزنه ذاكرته لا تنساه أبدا، فإن كان خيرا فلن يكفر إحسانك، وإن كان سوء فلن يغفر جورك.

ستظل حقيقتك في نفسه عند تلك المرحلة التي عرفك فيها و خالطك.

ومن هنا لا نستطيع أبدا نسيان معلمينا في المراحل الابتدائية، وما طبعوه فينا من أول ما عرفنا من معالم القدوة والحياة.

بل إن بعض المواقف في الصغر تشكل عقدة لا يمكن لصاحبها أن يتجاوزها أبدا، لتظل ذكرياتها المؤلمة تلهب النفس والفؤاد كلما تذكرها أو مر أمامه مجرد طيف هزيل يذكرها بصاحبها.

ولسنا هنا بعيدين عن العقاد أو ذكرياته فكما تأثر نفسيا من موقف الزعيم مصطفى كامل وشعر تجاهه بعد ارتياح جعله يهجر شخصه وسياسته وحزبه جملة واحدة، كان هناك موقف آخر علق بذاكرته وجعله يتعلم أكبر دروسه في الحياة.!

قال العقاد : الدرس الأكبر الذي أحسبه أكبر ما استفدته من جميع الدروس في صباي.. كان بصدد مسألة حسابية من تلك المسائل العقلية كنت شديد الولع بهذه المسائل، لا أدع مسألة منها دون حل مهما يبلغ من إعضالها. وكان الأستاذ يحفظ منها عددا كبيراً محلولا في دفتره، يعيده على التلاميذ كل سنة، وقلما يزيد عليه شيئاً من عنده، وعرضت في بعض الحصص مسألة ليست في الدفتر، فعالجنا حلها في الحصة على غير جدوى، ووجب في هذه الحالة أن يحلها الأستاذ لتلاميذه فلم يفعل، وقال على سبيل التخلص: إنما عرضتها عليكم امتحانا لكم لتعرفوا الفرق بين مسائل الحساب ومسائل الجبر، لأنها تشتمل على مجهولين.

لم أصدق صاحبنا ولم أكف عن المحاولة في بيتي، وقضيت ليلة ليلاء حتى الفجر وأنا أقوم وأقعد عند اللوحة السوداء حتى امتلأت من الجانبين بالأرقام، وجاء الفرج قبل مطلع النهار ، فإذا بالمسألة محلولة، وإذا بالمراجعة تثبت لي صحة الحل، فأحفظ سلسلة النتائج وأعيدها لأستطيع بيانها في المدرسة دون ارتباك أو نسيان.

قلت: لقد حللت المسألة

قال الأستاذ «أية مسألة»

قلت: «المسألة التي عجزنا عن حلها في الحصة الماضية»

قال: «أو صحيح؟ تفضل أرنا همتك بإشاطر!»

وحاول أن يقاطعني مرة بعد مرة، ولكن سلسلة النتائج كانت قد انطبعت في ذهني لشدة ما شغلتني وطول ما راجعتها وكررت مراجعتها.

وانتظرت ما يقال:

فإذا الأستاذ ينظر إلى شزرا وهو يقول: «لقد أضمت وقتك على غير طائل لأنها مسألة لن تعرض لكم في امتحان» وإذا بالتلاميذ يعقبون على نفحة الأستاذ قائلين: (ضيعت وقتنا ما الفائدة من كل هذا العناء؟).

يقول العقاد: «كانت هذه الصدمة خليقة أن تكسرني كسراً لو أن اجتهادي كان محل شك عندي أو عند الأستاذ أو عند الزملاء، أما وهو حقيقة لاشك فيها فإن الصدمة لم تكسرني بل نفعتني أكبر نفع حمدته في حياتي، وصح قول نيتشه: «كل ما لم يقتلي يزيدني قوة» لأني لم أحفل بعدها بإنكار زميل ولا رئيس و علمت أن الفصل قيمته فيه لافيا يقال عنه، أيا كان القائلون»

كان يكفي أن نترك العقاد وما تعلمه، لكن الموقف لا يمكن أن يمر دون أن نتأمل هذا المعلم الذي فشل أن يغرس معنى القدوة السامية في نفس تلميذه، ويبعث فيه شعوره الاحترام، ولم يبق له إلا سخط التاريخ الذي سجل عليه صغار النفس ولؤم الطباع.

Please follow and like us:
حاتم سلامة
كاتب وصحفي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *