بحوث ودراسات

حاتم سلامة يكتب: اعتذار إلى الرافعي

لعلي في مقال سابق، قد ظهر من قلمي ما يوحي بالتجني السافر على أديب من أعظم أدباء العرب، وإمام لا يبارى في سحر القول والبيان، وجهبذ لا يدانى في معرفة العربية، وقلم له السبق الخالد في نصرة الإسلام وإنصافه من أعدائه..

وأنا هنا لا أصالح الغاضبين من أصدقائنا المتشيعين للرافعي والمتعصبين لأدبه وأثره، بقدر ما أصالح نفسي حينما أجبرها على الرجوع إلى الحق وإنصافها للرجل، وإزاحة ما حاول مقالي السابق أن يرميه به من تهم هو والله في سيرته وحياته ونفسه ومواقفه، أبعد ما يكون عنها.. وعجبًا قلت، وآبدة كتبت، وجرما جنيت، أيكون هذا الرجل الجسور، وآية الله في القول، والبعث الالهي للبيان العربي، والسيف الذي سله الله على أعدائه.. أيكون من المنافقين المتملقين؟!

إن هذا لمنكر من القول وزورًا، وإن شئت فقل غمط موحش للحق، واعتبرها إن كنتَ من المعذرين لي كبوة كاتب، أو شطحة قلم، سرعان ما تنبه لها وأزال إفكها وأبان فجورها.!

كيف ينافق هذا الأبي الذي كانت كرامته تطاول السماء، وكان اعتزازه بنفسه يسمو على الرؤساء والوزراء؟

ليس الكلام هنا كلام إنشاء، أو جملا تستقي سبكها من وحي عاطفة تشعر بالندم، بل ندلل في دفاعنا عنه بالشواهد المعلومة، والأدلة المنصوبة، أمام هذا الاجتهاد الذ أعترف أنه أغفل الإحاطة الكاملة بأخلاق الرجل الحقيقية.

وكان لزاما على القلم أن يتراجع، حتى لا يظلم قامة لا مثيل لها في تاريخنا الأدبي.

حينما كان الرافعي أديبًا عظيما شاع اسمه وذاع صيته، وفي ذات الوقت موظفا بسيطا في محكمة طنطا، لم يعرف عنه أبدًا أنه هرع إلى رئيس مهنئا له كشأن بقية الموظفين، لقد كان الرئيس هو الذي يذهب إليه في حجرته يزوره، أولو كان منافقًا متملقًا، لكان الأولى به أن يتزلف إلى رؤسائه في العمل، حتى يكسب ودهم ويسعى إلى رضاهم؟

 لقد كان شديد الحساسية فيما يظنه ماسًا بكرامته، فقد ذكر العريان أنه ذهب إليه مرة فوجد أحد المفتشين يجلس إلى جوار مكتبه، فهم بالانصراف، فلم يكن من الرافعي إلا أن جذبه من يده وقال له ثبات وثقة: اجلس.

وحدث أن وجه المفتش إلى الرافعي سؤالا، فما كان منه إلا أن قال للعريان: “من فضلك تول عني جوابه، فإنه في حاجة إلى معلم مثلك”

ألو كان منافقًا متملقا، أيكون على هذا النحو من معاملة المفتشين الذين تنخلع لهولهم قلوب الموظفين؟!

إنه رجل جريء شجاع لا يهاب أحدا ولا يخضع لتهديد أو يخشى وعيد.

وحدث مرة أن ترأس المحكمة رئيس جديد ذو سطوة، فهرع جميع الموظفين لتهنئته إلا هو، فلما سأل الرئيس عن الرافعي قالوا لم يحضر، وانتهزها الحاضرون فرصه فأثاروا حفيظة الرئيس ضد الرافعي، فكتب إلى وزارة الحقانية يطلب منها إخراجه من وظيفته لأنه مستهتر لا يحافظ على مواعيد العمل الرسمية ولا يحسن التفاهم مع الناس.

لم يرد عنه أبدا أنه تذلل لهذا الرجل وسعى إلى إرضائه وكسبه ليخفف من غضبه عليه، وذلك لأنه كان عزيزًا كريمًا لا ينافق أو يداهن.

ودعك من هذا كله فربما لم يكن الرافعي متعلقًا بالوظيفة يائسًا من أمرها.. وانظر هنا لحاله مع الكبراء من أخطر رجال الدولة.. والذي لو كان من المنافقين، لكان معهم كالحمل الوديع، يتقبل غطرستهم وعلوهم عليه، لكن ذلك لا يستقيم مع رجل يمثل الإسلام أعظم تمثيل، ويحمل لواء الدفاع عنه خير دفاع.

أخبرني بعض العلماء أن هذا النقد للرافعي تجن كبير عليه، كما أنه يؤثر في وعي بعض السطحيين الذين لا يميزون التمييز الدقيق، فيهون عندهم تراث رجل كان يشهر قلمه في وجه أعداء الإسلام.

كما أن هذا النقد المجحف للرافعي وبسبب تقديمه ومدحه للملك فؤاد، الذي هاجمه العقاد، ورأينا منه تفضيل العقاد على الرافعي همة وشجاعة، إنما كان مجرد اجتهاد سياسي ورؤية يمكن أن يختلف الرائي فيها مع العقاد، ناهيك أن العقاد تحمس قلبه لهذا العدوان على الملك لأنه كان نائبًا في البرلمان، وتخيل معي أنه لو لم يكن نائبًا فهل كان يمكن أن يقول مثل هذا الكلام؟!

كما أننا غفلنا أمرًا مهما جدا في ميزة تلك الحقبة، وهي أن هذا العهد كان مشوبا بالحرية والديمقراطية وصراحة التعبير، ولم تكن هناك سلطة إلا سلطة القانون، وقد رأينا في عهد ناصر كثيرا من التجاوزات التي لم يجرؤ العقاد أن ينتقد منها شيئا ولو بسطر واحد أو أي صورة كتابية ولو كانت مواربة، لأنه يدرك أنه لا حرية، وأن أي كاتب يتجرأ على النقد، فإن مصيره هو السحق والسجن الاعتقال والتشريد وربما القتل.

ثم انظر إلى هذا المدح الذي كاله الرافعي للملك، وتأمل معانيه، إنه يقول له: ” وجلالة الملك فؤاد حرسه الله هو اليوم رجاء الإسلام، بل هذا الجسم الإسلامي كله، فهو الملك الراسخ في العلم، ثم القوي بعلمه في الإيمان، ثم المتمكن بإيمانه في الفضيلة”

ولعل هذا القول مما يستحث الحاكم على الوقوف في صف الإسلام ومناصرته وإعزاز حكمه، وإن لم يكن على المستوى المطلوب، لكنه خاطبه باسم الإسلام وذلك شيء جيد، وافقه فيه داعية شهير خرج فيما بعد ودعا لفاروق أن يكون خليفة للمسلمين، رغم أن فاروق ليس الجدير بهذا المنصب، لكن رجاء الداعية قيام الخلافة حتى لو قامت على يد من لا يستحق.

وماذا كسب الرافعي من قربه من الملك؟

لقد طلب منه أن يكون شاعر الملك، ولم تكن هذه المكانة لتجعل منه كذلك الببغاء الذي يسير خلف سيده يمدحه كلما قام أو قعد، وإنما كانت وظيفة تؤهله لقول قصائد معدودة كل عيد جلوس ملكي أو ما أشبه ذلك من الوقائع الرسمية.

لم يكن الرافعي يتقاضى أجرا ومالا على هذا المنصب، وإنما كان مجرد منصب أدبي، وكل ما ناله بعض الشكليات التي يمكن لأي مواطن أن يحصل عليها، ومنها جواز سفر مجاني للسفر في الدرجة الأولى على خطوط السكة الحديدية، وتعليم ابنه على نفقة الديوان الملكي، وهو أمر كذلك يحصل عليه كثير من الطلاب، وقد كان طه حسين واحد من هؤلاء في تعليمه، وطبع كتاب إعجاز القرآن على نفقة الملك وهو أمر يخدم الأدب والإسلام قبل أن يخدم الرافعي أو يخدم الملك.

ولكننا هنا يجب أن نثبت أن كل ذلك لم يدم، وأن هذه الامتيازات التي حصل عليها الرافعي تبددت، فلم يعد شاعر الملك، ولم يعد الإنفاق على تعليم ولده من الملك، فماذا حدث وما جرى؟!

استعد الآن لتُكبر قامة الرافعي بعد هوان مما قرأت سابقا، لتعرف كم أن لهذا الرجل من شعور الكرامة وإحساس العزة، ما يضعه زعيمًا من زعماء الحرية، ويجعل منه أعلى مثال من أمثلة الفروسية.

فلقد ساءت الأمور بينه وبين الإبراشي باشا الذي كان ناظرا للخاصة الملكية بعد محمد نجيب باشا الذي احتضن الرافعي وعينه شاعرًا للملك، ويرجع هذا الاستياء إلى اعتداد الرافعي بنفسه وكبرياء ذاته، فقد ذهب مرة إلى الديوان الملكي ليقابل الإبراشي باشا، فجلس في انتظار مقابلته بعد أن أخطره بمجيئه، وطال الانتظار ساعات، وانتهى الأمر بعد طول انتظار أن طلب منه أن يعود في يوم آخر لأن معالي الباشا مشغول، ويالها من مهانة كبيرة حاولت أن تنال أديبًا تهتز له الأرض، وصاحب قلم يرى الناس كلهم دونه مكانة وقيمة، وهنا تثور ثائرته وينتفض انتقامه لكرامته، فيقتحم الغرفة التي فيها الباشا وبلا استئذان وكان وقتها يجلس مع أحد الأجانب، وقال الرافعي له ما أنصف به كرامته وخرج، فأسرها الإبراشي في نفسه ، فسحب منه جواز السفر، وخلعه من منصب شاعر الملك، وقطع المعونة المالية عن ابنه الذي يدرس الطب في فرنسا.

هل لو كان الرافعي منافقا أبالله عليك تكون هذه أخلاق منافقين؟

أو تصرفات متملقين؟!

كلا والله إنها نفس حر يأبى المزلة والهوان ويرفض الانكسار، وكم تمنيت أن أعرف ماذا قال الرافعي للباشا وكيف انتقم لكرامته ومكانته.

لكن اقتحامه للحجرة وحده دون استئذان كفيل بإهانة هذا الرجل الذي لا يعرف قيمة من يقف على بابه، فكان لابد من تقريعه وتأديبه وقد كان.

وهل تعلم أن الرافعي في هذا الغضب لا يهم أنها كانت النهاية، وأن أي مجد حصله من القصر إلى زوال؟ لقد كان يعلم ذلك جيدا، ولكن ليذهب كل شيء إلى الجحيم ولتذهب كل المكاسب إلى الضياع أمام أي هفوة تنال من نفس هذا الكبير وكرامته.

حاشا وكلا أن يكون الرافعي من المنافقين أو المسترزقين، أو ممن يبيعون أقلامهم لمن يدر عليهم المال والجاه.

ولقد تم تعليم ولده الطب من عرق جبينه، كافح عليه وعلى إخوته بقلمه، وشاء القدر أن يحصل ما حصل، حتى لا يكون لأحد على الرافعي منة وفضلا.. فليقبل الإمام الكبير اعتذاري له، وليسامح غلطنا فيه.

حاتم سلامة

كاتب وصحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى