الجمعة أكتوبر 11, 2024
أقلام حرة

حاتم سلامة يكتب: الخطاب الثوري بين ناصر وأبي عبيدة!

مشاركة:

لماذا نال عبد الناصر زعامة الأمة العربية؟ هل بالقومية العربية التي دعا إليها؟ هل بإنجازاته النهضوية والتنموية؟ هل لكونه الزعيم القوي الذي بنى جيشًا ودعم الثورات العربية وسلح رجالها؟

أبدا أبدا.. لم يكن هذا هو السبب الرئيس الذي رقاه إلى رتبة الزعامة الكبيرة، وإنما تأتي في المقام الأول.. خطاباته الثورية الحماسية التي امتلك بها قلوب الجماهير، أضف إليها تلك الكاريزما الطاغية التي تمتع بها.

يعد ناصر هو أول زعيم عربي استغل الحديث الثوري في التأثير على الجماهير، وهو الأسلوب الذي عشقته إلى الحد الذي جعلهم يغفرون له أي تقصير أو نقيصة، حتى لو كانت هذه النقيصة متمثلة في نكسة وهزيمة منيت بها البلاد، فقد خدرتها خطابات ناصر الحماسية، أو قل أعمتها طلاقته الثورية، فما عادت ترى أو تبصر الصواب، وبدلا من أن تحاسبه وتعاقبه على تقصيره، هبت وراءه تتوجه من جديد وتعيده إلى الحكم هاتفة باسمه وحياته!

ولنعترف بشفافية أن ناصر كان يهوى الطنطنة والجعجعة التي كانت تفوق إمكاناته بكثير من الواقع والحقيقة، لكنه كان حينما يمسك بالميكروفون، كان ينسى ويصاب بالتهيؤات، ويتخيل نفسه أقوى زعيم عرفته الكرة الأرضية، مما حدي بالغرب أن يصوره بهتلر، ويعقد بينه وبين الزعيم النازي كثيرًا من المقارنات في الحركات وإشارات اليد وميلان الجسد ولغة الإشارة والجمل المدوية والخطابات العنترية، ويبدو أنهم صدقوا في تحليلهم، فقد كانت الهزيمة مصير الرجلين.

الرئيس السادات لم يكن كسابقه بل كان على العكس تمامًا، فقد كان يمتلك عقلا وحكمة، وكان لديه حديثًا قويًا، لكنه لم يكن في قوة ناصر، إلا أنه كان موضوعيًا يتكلم في نطاق قدراته، ويؤمن بالصمت والعمل والصبر والكفاح، واستطاع أن يجلب النصر وبعد ذلك تكلم وتحمس، حينما عرف موطئ قدمه.

ونريد أن نقول: إن الأمة العربية عاشت عقودًا طويلة أمة ذليلة خانعة محتلة مهيضة الجناح، تشعر بالذل والانكسار، وفجأة حينما يظهر فيها قائد أو رئيس يتبنى الخطاب الحماسي الثوري، فإنها تهيم به عشقًا، وتجعل منه بطلا إلى هذه خالدًا، وهو ما حدث كما ذكرت مع ناصر، فهناك من يؤلهه إلى هذه اللحظة، لأنه الرجل الوحيد الذي استطاع أن يسد الفراغ والشعور بالنقص عند الكثيرين، ورغم هزيمته النكراء، لايزال ناصر هو البطل المغوار والزعيم المفدى رمز العزة والشموخ، مع أنه الرجل الذي جلب إلى وطنه العار والهزيمة.

وهكذا دومًا طبيعة الشعوب العاطفية التي يحكمها الهوى وينقصها الوعي والفهم، تسير بعواطفها عامية عن كل الحقائق والبراهين، لا تبصرها ولا تؤمن بها.

نفس ما حدث مع حسن نصر الله، سحر الناس وصاروا ينتظرون خطاباته التي تهدد إسراeيل، في حربها مع حزب الله، وكانت صورته في الصحف المصرية تخرج في الصفحات الأولى، مكتوب تحتها بالبنط العريض (سيد المقاومة) لكن شاءت الظروف أن يسقط كل ما بناه بموقفه من سوريا. 

وفي هذه الأيام، ظهر نمط جديد من الخطاب الثوري الذي ملك كثيرًا من القلوب، وتعلقت به كثير من الأفئدة، لأنه اللغة الثورية والحماس المدوي الذي افتقدته الأمة من زمن ناصر، فعاد إليها الشعور بالذل والانكسار مرة أخرى، وحينما خرج هذا الصوت تعلقت به الآمال، وتجدد به الأحلام، وهوت إليه الأفئدة، حتى علق أحدهم بقوله: إن صوت أبو عبيdة هو أجمل نغمة أهوى سماعها، وصار كثير من الناس في غدوهم ورواحهم يديرون كلماته وخطبه وتوعداته للعدو في حلهم وترحالهم، وذهابهم وإيابهم في سياراتهم وهواتفهم.

وما ذلك إلا لأن الناس يفتقدون البطل والمخلص والرجل القوي الذي يقف ضد عدوهم يتوعده وينذره ويهدده.

ومن العجب أنه بالرغم من كون الرجل متخفيًا ملثما ليصير البطل الخفي الذي لا يعرفه أحد، إلا أن القلوب كذلك تعلقت به، ولعل هذا التخفي مما يزيد من الولع به عند البعض، فالناس في أمتنا لديها استعداد أن تتعلق بأي شيء ولو كان همسًا يجسد لها معاني الكرامة.

النمط الجديد في خطاب أبو عبيدة أنه حديث باسم الدين ومعاني الجهاد، بعكس ناصر الذي كان خطابه ثوريًا يقوم على التعالي والتوعد الكاذب وزعم القوة المزلزلة.

أبو عبيdة يعلن للجميع أن الشهادة مبتغاه ومن معه، حتى لو ماتوا عن آخرهم فلن يضرهم شيئا ما داموا قاموا بحق بلادهم، لكن ناصر كان يعلن أن العدو سينال مقاتله وهزائمه على يديه.

أبو عبيdة يقف ومن معه في عداء العالم كله، ويستمد قوته من الله واليقين والإيمان، ولعل هذا من معالم البطولة الفائقة، أما ناصر فقد كان يستمد قوته من روسيا التي تقف وراءه وتناصره وتدعمه، ومع هذا هزم شر هزيمة، وانتكس أكبر انتكاسة.

ناصر يهتف ويقول سنعمل ونسوي، ولا يفعل شيئا..

أبو عبيدة لا يخرج إلى لغة الكلام إلا بعد لغة الفعل.

Please follow and like us:
حاتم سلامة
كاتب وصحفي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *