حاتم سلامة يكتب: الصحافة الفضاحة
صحبت في بداية حياتي الصحفية كاتبًا صحفيًا من جريدة الوفد، وكان يقول لي ما يؤمن به دومًا: إن الصداقة شيء والصحافة شيء آخر، وأنه إذا عرف شيئا خاصًا عن صديق ما.. لا تمنعه الصداقة من نشره، لأنه كان يرى حسب فلسفته أن النشر حق المجتمع والناس، وأن الصحف يجب أن تغذى وتسود بما يُقرأ من أسرار الدنيا والبشر.. وأن هذا الصديق إن تضايق فقد أخطأ في ضيقه لأنه لم يفرق بين الصداقة والعمل.!
وهي فلسفة مضحكة وغريبة منكرة تقتحم حياة الناس ولا تحترم خصوصياتهم، ولا تقيم اعتبارا للقيم والفضيلة والأذواق، وهي صحافة مشبعة بالأنانية والأثرة والانتهازية.
كنت أتصور بعض الصحفيين الذين لا ضمير لهم وهم يتتبعون عورات الناس لنشرها، كالكلاب التي تلهث وتشم الأوكار بأنوفها لتحصل على ما تريد الحصول عليه، والحق أن مهنة الصحافة من أخطر المهن، والصحفي يوم يفقد شرفه وضميره ودينه، فيا ويل المجتمع والناس منه.
وإذا كان أحدهم يكشف ستر إنسان ويعلنه بين جمع من الناس، فإن الصحفي أبشع في مداه وأثره، لأنه يشيع سوآت الآخرين على الدنيا بأثرها.
أتذكر وأنا في مطلع شبابي وفي مرحلة التدريب، أن قبضت الرقابة الادارية على مسؤول حكومي، واستدعوه للتحقيق وتوجيه الاتهام بمقر الرقابة، وكان صديقًا لنا بإيعاز من رئيس التحرير قد ترصد للمتهم ومن معه من رجال الرقابة على السلم ليلتقط لهم صورة، ونجح فعلا في اقتناص صورة مثيرة وهم يصعدون السلم، وأحد المحققين يشير اليه بيده ليمنعه، كانت الصورة ناطقة أو صحفية بامتياز، لكن المتهم كان كالقط المذبوح، ولقد آلمتني الصورة كثيرًا، وفضلت وقتها خلق الستر ابتهاج بمصاب الناس.. وأذكر أن فرحة رئيس التحرير كانت هائلة وكنت أرى السرور يوشك أن يقفز من وجهه، وهنا عدت لأقول لنفسي وأسائلها سؤالا فرض نفسه مع هذا الموقف: هل تعادي مهنة الصحافة بواعث الإنسانية، هل يشترط لنجاحك كصحفي أن تتجرد من معالم الإنسان كالشفقة والرحمة والستر على الناس.
أنا واحد من الذين تنال الإنسانية منهم منالها، ولا يمكن أبدًا أن أفقد حسها الذاتي تحت أي ضغط أو تأثير، فنداؤها في أعماقي غالب لا أستطيع تجاهله أو مجافاته والاستدارة له.
لا يبلغ الإنسان أسمى درجات الإنسانية إلا حينما يكون ستيرًا على الخلق يحجب سيئاتهم ويستر معايبهم ويغفر زلاتهم.
وقتها يكون فعلا على أسمى ما تعنيه كلمة إنسان من معان، بل جعلها دينا تعريفا عاما للمسلم ومن صفاته التي تميزه، حينما قال رسولنا الكريم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” وقال: (من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
وفي مثل هذه الايام العصيبة نسمع كثيرا عن مآس وبلايا تشيب لهولها الولدان، سببها الأول والأخير غياب الضمير والخلق والدين من النفوس والصدور، فترى أناسا يتمتعون بفضح غيرهم ممن قدر لهم واطلعوا على معايبهم وأسرارهم ودفائنهم، بل لا يتورع أحدهم أن يبتز آخر وقع تحت يديه مسجل أو صورة أو مقطعا مرئيا يفضحه به بين الخلائق.
وقد رأيت وسمعت عن كثير من المصائب من هذا النوع لا يمت أصحابها للقيم في شيء، وقد تتسبب في جرائم ومصائب تنتهي ببعضهم إما أن يموت كمدا أو ينتقم من فاضحه بالقتل أو الحرق، أو يقدم المفضوح على الانتحار حتى يتخلص مما لحق به من أذى وبلاء.
قرأت مرة عن فضيحة هزت فرنسا كلها في 16 مارس 1914م حيث دخلت زوجة وزير المالية الفرنسي مكتب رئيس تحرير جريدة (ألفيجارو) اليومية الفرنسية وقالت له:
أرجوك لا تنشر رسائلي العاطفية إلى زوجي
أجابها
-وماذا في ذلك، إنه زوجك.. قالت:
يوم بعثت إليه بهذه الرسائل لم نكن زوجين، وكنت متزوجة برجل آخر غيره، وهو الان متزوج بأخرى ولا أريد أن تعرف ابنتي ذلك!
قال رئيس التحرير متحديا: آسف يا سيدتي سأنشرها
وهنا أخرجت (هنريت) زوجة الوزير جوزيف كايو مسدسا من حقيبتها وأطلقت (5) رصاصات على رئيس التحرير، ولم تحاول الهرب، ولم تنكر شخصيتها، واعترفت بأنها القاتلة، وغادرت المكتب إلى السجن، ونقل «جاستون كالميت» إلى المستشفى حيث مات بعد 6 ساعات من وصوله، واضطر الوزير الزوج أن يستقيل من منصبه حتى يقف مع زوجته في محنتها.
ولا شك أن رئيس التحرير الأناني والذي كفر بكل معاني الإنسانية والنبل، أدرك أنه أمام خبر صحفي ساخن، تسيل له لعاب الجماهير وتتهافت على نوعيته، إنه يعلم أن نشره سيزيد من شعبيته وشعبية جريدته وازدهار توزيعها على حساب آلام الناس ومستورهم حتى ولو جلب لهم العار فلا يهم، إنما المهم نشر الخبر الذي يروج للصحيفة.. وأنا عن نفسي لم أشفق عليه لأنني أرى أنه يستحق الموت من سيدة دافعت عن شرفها وسمعتها أمام كلب يريد أن يستغلها لشهرته ومكاسبه.!
لعن الله الصحافة التي تقوم على كشف الاستار وفضح العورات والاقتيات على سمعة الناس.
إنها الصحافة الحرام.
رحم الله الأستاذ محمد التابعي حينما قال:
“إنني أفضل أن أكون إنسانا ملتزما بالقيم والمبادئ والمثل العليا والأمانة الصحفية، على أن أكون أشهر صحفي في العالم، لا يكون ملتزما بالقيم والمبادئ والمثل العليا والامانة الصحفية “
قال صديقي معلقا على هذا المقال:
كان هناك طائرين جارحين أحدهما معه كاميرا، جملة لا أنساها قالها مشاهد تعقيبا على صورة شهيرة لنسر ينتظر موت طفلة جائعة في أفريقيا ليلتهم جثتها، ولم يتدخل المصور الذي يريد السبق الصحفي، ويقال: إن المصور بعد هذا التعليق قد انتحر.
وإذا كان الانتحار شيئا مذموما إلا أنني ابتهجت كثيرا لهذا الانتحار لأنه أعلن أن الانسانية قد استيقظت في صاحبه الذي مات قلبه يوما ما.. فكفر به عن لحظة الموات.