حاتم سلامة يكتب: العقاد في علاقة غير شرعية
قد تبلغ بك الإنسانية ورقة المشاعر حدا لا يستوعبه الناس، ولا يسعهم حيالها إلا أن يتهموك في غرضك.
فلو رأوك يوما تعطف على أرملة وأولادها، لاتهموك بطمعك في عرضها، ولو رأوك تحسن إلى فتاة يتيمة لتلسنوا عليك بأن لشهوتك مأرب منها.
أو أنهم رأوك يوما تهش لمطلقة، لتنفجر في رؤوسهم شياطين العربدة ترميك بألوان الخنا والفجور.
هكذا يكون الإحسان إلى عنصر النساء تحديدا، له تصوره المشوه عند كثير من القلوب المريضة، ولهذا لا يسع اللبيب إلا أن يكون على حذر في اتقاء الشبهات خشية أن يلوث المتقذرون نيته الطيبة وعمله الإنساني.
هل تتخيل أن تتعرض لهذا المحك سمعة إمام عظيم من أئمة الأدب واللغة بمثل هذا التلوث والدنس، وبمثل هذه الظنون السوداء، ومن المحزن أن يشيع عن مثله هذا الشائع الخطير دون تثبت و تحقق، بل يكون من الأكثر حزنا وكمدا أن يروج لهذه الشائعات من هم في درجة رقيه الأدبي والإنساني، ويعتقدون فيه ظنون السوء دون تثبت أو وقوف على حقيقة الأمور.
لقد نقل الدكتور محمد الدسوقي في كتابه الذي ألفه تحت عنوان (طه حسين يتحدث عن أعلام عصره) مقالة خطيرة جدا إذا مر عليها بعض القراء فإنها تصيبهم بدوار قاتل وصدمة عنيفة في شخص العقاد العملاق الذي أحبوه كثيرة.
ولعمري إنها لشبهة قاتلة لعرض الرجل وسمعته ونزاهته، وتجعله من أرباب الحرام والمعاصي.
يقول الدكتور طه والعهدة على الناقل عنه: “لقد كان للعقاد علاقة غير شرعية بامرأة كانت تسكن في العباسية، وقد أثمرت هذه العلاقة فتاة، وهي التي انتحرت بعد وفاة العقاد، لأنها ذهبت إلى البيت يوم وفاته فظن أهله وإخوته إنها جاءت لتطالب بحقها في الميراث، فطردوها من البيت فانتحرت”
وهذا الكلام الذي تردد على لسان طه كما أشرت، خطير كل الخطورة، فلا يكفي نقد الرجل في ثقافته أو مؤلفاته، وإنما عدا الناقدون عليه في شرفه وعرضه.
لقد ظل هذا النبأ المخيف حبيس الذاكرة حينما قرأته ولا أعلم عنه أصلا أو أساسا حتى قرأت كتاب الدكتور البحاثة الدكتور شوقي ضيف عن الأستاذ العقاد، فإذا به يكشف النقاب عن هذه القصة المثيرة، والتي تبين من كلام ضيف أنها قصة تدل على إنسانية العقاد وسمو مروءته وجمال نفسه، قبل أن يتخذ منها المغرضون سبيلا للنيل منه وظلمه ظلما شديدا.
يقول الدكتور ضيف: “وكان العقاد على صلة بأسرة تُجاوره وعرفت ما يعانيه من محنة، فعرضت عليه سيدة منها نبيلة القلب حليها ليرهنها على أن يتبلغ به، حتى إذا عاد إليه اليسر افتك الرهن وأعاد إليها الحلى، واضطره ضيق ذات اليد أن تطوقه السيدة بهذه المكرمة، التي ردها فيما بعد ـ إلى طفلة لها، توفيت عنها ولم يكن لها عائل، سوى خالة رقيقة الحال، فكفلها ورعاها، وأفاض عليها من العطف ما جعلها تدعوه بأبيها، حتى إذا أسلم روحه إلى بارئها انتحرت حزناً على راعيها وحاميها ويأساً بعده من الحياة.”
هكذا إذن أصل الحكاية وأساس الشبهة وحقيقة الظن السيء الذي رُمي به العقاد العملاق، العملاق في إنسانيته قبل أن يكون عملاق الفكر والثقافة والأدب.
والقصة منطقية جدا لما عرف العقاد ولمن لمس هذه الإنسانية المفرطة ورقة قلبه الفائقة حينما يقرأ كتابه عالم السدود والحدود ونراه كيف يبكي ويرق لحال المسجونين والمجلودين ويئن لأهات المعذبين.
ولقد كتبت في هذا مقالا سابقا تحت عنوان (الجبار لم يكن جبارا) كما أننا في قراءتنا لحياته، نرى وندرك أن الفقر لم يلم بأحد العباقرة كما ألم بالعقاد في بعض أو كثير من فترات حياته، فلقد مرت به أيام سود لم يجد فيها من يسنده، واضطر إلى بيع كتبه العربية والغربية ليشتري ما يسد رمقه، ولم يستطع أن يدفع إيجار مسكنه، واضطر إلى أن يعطي درسا خصوصا لبزاز نظير كسوة تقيه غائلة الحر والبرد، وازداد به الضيق وأصبحت حياته ضنكا خالصا كما نقل وقيل.
لقد دفعنا هذا المقال أن نبرئ ساحة العقاد العظيم من هذه الشبهة المردية، ونزود عن عرضه، لتظل صورته الكريمة العامرة سامقة في قلوب قرائه ومحبيه، لا يلوثها شيء، ولا ينال مجدها سوء.